اهتم العراق منذ تكوينه السياسي في العصر الحديث عام 1921 بانشطة نقل التكنولوجيا وتوطينها. وقد شملت هذه الانشطة انشاء المعاهد والكليات ومراكز التأهيل والتدريب لاعداد الملاكات العلمية والتقنية التي كان يفتقر اليها بشدة لسد حاجاته المتواضعة حينذاك. كما ارسل العراق الطلبة الموهوبين للدراسة في اقطار اوربا وامريكا الشمالية في مختلف التخصصات العلمية والتكنولوجية، ويمكن تقسيم مراحل نقل التكنولوجيا وتوطينها في العراق الى ثلاث مراحل رئيسة:
1.ـ مرحلة الحكم الملكي: امتدت هذه المرحلة من عام 1921 الى عام 1958 وقد كان الاهتمام فيها محصورا بصورة رئيسة باعداد موظفين لسد حاجات دوائر الدولة المختلفة.لذا يلاحظ ضعف الاهتمام بالدراسات العلمية والتكنولوجية، وغلبت الدراسات الانسانية والدراسات ذات الطبيعة النظرية التي تفضي باصحابها الى تولي مراكز وظيفية مكتبية في الدولة، وهو امر خلق شعورا لدى الكثير من الناس بسمو العمل المكتبي وتدني الاعمال الحرفية واليدوية. لقد تميزت هذه المرحلة بضعف النشاط الصناعي واقتصاره على الصناعات البسيطة التي يتوارثها الابناء عن الاباء. اما النشاط الزراعي على اهميته فقد كان نشاطا بدائيا،واعتمد العراق على ثروته في مجمل نشاطه الاقتصادي. وفي مجال التربية والتعليم شهدت هذه المرحلة انشاء المدارس الحديثة للبنين والبنات وانشاء عدد من الكليات والمعاهد العلمية ابرزها انشاء كلية الطب عام 1927 وكلية الهندسة عام 1942 وكلية العلوم والاداب عام1948 وكلية الزراعة عام 1952، واخيرا استحدثت جامعة بغداد عام 1956. وخلاصة القول ان هذه المرحلة لم يشهد فيها العراق نشاطا ملموسا في مجال نقل التكنولوجيا وتوطينها سواء ما يتعلق منها بالاجهزة والمعدات او ما يتعلق بالملاكات العلمية.2
2.ـ مرحلة الحكم الجمهوري الممتدة من عام 1958 الى عام 1968: شهدت هذه المرحلة تأسيس جامعتي الموصل والبصرة عامي 1963و1964 على التوالي وكذلك تأسيس معهد الهندسة الصناعي العالي في بغداد بمعونة من منظمة اليونسكو ليصبح فيما بعد نواة للجامعة التكنولوجية، وتأسيس الكلية الجامعة عام 1964 لتصبح فيما بعد نواة للجامعة المستنصرية. كما شهدت هذه المرحلة توسعا لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث بارسال مئات الطلبة للدراسة في اقطار العالم المختلفة ولاسيما اقطار الاتحاد السوفيتي السابق واقطار اوربا الشرقية وفي جميع التخصصات العلمية. وتميزت هذه المرحلة باستيراد عدد من المصانع في مجالات صناعات الورق والسكر والزجاج والالبسة والزيوت وبعض مجالات الصناعة النفطية من الاتحاد السوفيتي السابق واقطارا وربا الشرقية. وقد بذلت بعض الجهودلانشاء عدد من المراكز البحثية. ويمكن القول ان هذه المرحلة شهدت نشاطا افضل في مجال نقل التكنولوجيا وتوطينها لغرض التنمية الشاملة في العراق.
3.- مرحلة الحكم الممتدة منذ عام 1968 حتى عام 2003. شهدت هذه المرحلة تأميم النفط عام 1972 وامتلاك العراق جميع ثرواته وموارده الطبيعية وانتهاج سياسة وطنية لبناء صناعات متطورة تلبي حاجاته المختلفة مما تطلب انشاء الكثبر من المعاهد والجامعات التي بلغ عددها حاليا (20) جامعة و(38) معهدا تقنيا و(9) كليات تقنية و (8) كليات اهلية موزعة على جميع ارجاء العراق. وشهدت المرحلة ارسال مئات الطلبة للدراسة في اقطار العالم المختلفة في شتى التخصصات العلمية والتكنولوجية. وانشئت مراكز بحثية مختلفة داخل مؤسسات التعليم العالي وخارجه كان ابرزها مجلس البحث العلمي الذي الغي في نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. وبرغم التطور العلمي الذي شهدته هذه المرحلة، إلاّ ان هذا التطور كان لا يختلف عن تجارب الاقطار النامية التي تحاكي تجارب الدول الصناعية المتقدمة التي تعتمد اساسا على استيراد المصانع ومشاريع المفتاح الجاهز دون اكتساب الخبرات الكافية لنقل التكنولوجيا وتوطينها في بيئتها المحلية. شهد العراق تطورا واضحا وملموسا في مجال نقل التكنولوجيا وتوطينها في عقد الثمانينيات الذي يمكن عدّه البداية الحقيقية لقيام صناعات عراقية متطورة وفك اسرار بعض المعارف العلمية والتكنولوجية المتطورة في بعض مجالات التصنيع العسكري ،ولاسيما في تكنولوجيا الصواريخ البعيدة المدى وبعض الصناعات العسكرية ذات الصلة، وفي مجال تكنولوجيا العدد والقوالب وووضع اجهزة الانذار المبكر والتكنولوجيا النووية واستخداماتها المختلفة للاغراض السلمية.
ولغرض تنظيم عملية نقل التكنولوجيا وتوطينها في العراق بصورة سليمة على وفق منهجية عمل واضحة اسست أول مرة في القطر وحدة نقل التكنولوجيا وتطويرها عام 1976 ضمن تشكيلات مؤسسة البحث العلمي التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي بموجب قرار مجلس التخطيط ذي الرقم 151 في 9/5/1976.
وقد تولت هذه الوحدة مهمة التحضير لمشاركة العراق في مؤتمر الامم المتحدة للعلم والتكنولوجيا من اجل التنمية المنعقد في فيينا عام 1976.وفي العام 1978 استحدث مركز نقل التكنولوجيا وتطويرها بدل من وحدة نقل التكنولوجيا وتطويرها.
وطلبت الحكومة العراقية من الاونكتاد UNCATAD) ) اعداد دراسة لانشاء مركز قومي لنقل التكنولوجيا واستحداثها.
ارسلت الاونكتاد بعثة الى العراق واصدرت دراستها الموسومة:
”نقل التكنولوجيا وتطويرها في العراق“
اتفقت مؤسسة البحث العلمي مع الاونكتاد على دعم مركز نقل وتطويرها التكنولوجيا واستحداثها من خلال الاتي:
1.اقامة هيكل مؤسسي ملائم وقادر على المساهمة في احداث التحولات التكنولوجية المنشودة.
2.تدريب الملاكات الوطنية وتطويرها القادرة على استيعاب التكنولوجيا المستوردة الى القطر وتطبيقها في الانشطة الاقتصادية.
3.تحديد الحاجات القطاعية واعداد التوصيات حول اختبار التكنولوجيا واستخدامها القطاعية المناسبة.
4.وضع صيغ للاستتراجيات التكنولوجية على المستوى القومي كجزء من استتراجية التنمية القومية .
5.ربط المركز بالمراكز العربية المشابهة.
وفي عام 1980 الغي مركز نقل التكنولوجيا وتطويرها اذ انيطت مهماته الى دائرة العلم والتكنولوجيا التابعة لوزارة التخطيط والمستحدثة عام 1979. اعادت هذه الدائرة التفاوض مع الاونكتاد وبرنامج الامم المتحدة للتنمية UNDP لتمويل المشروع بصورة كاملة دون تحميل العراق أية أعباء مالية ولكن لم يحقق العراق في هذه المسالة اي شيْ يذكر حتى الغاء هذه الدائرة عام 1983.
ولعله مفيد ان نشير هنا الى بعض المهمات المنوطة بدائرة العلم والتكنولوجيا والمحددة بأعداد الخطط الخاصة بنقل التكنولوجيا واقامتها وتطويرها في ميادينها العلمية والفنية والاجتماعية والانسانية بما يتلاءم وحاجات التنمية القومية ومستلزمات التغير الاجتماعي الشامل في القطر.
وفي نهاية عام 1983 صدر القرار ذو العدد 1338 في 5/12/1983 الخاص بتشكيل اللجنة الوطنية بنقل التكنولوجيا وحدد ارتباطها بمجلس البحث العلمي. وطبقا لذلك صدر نظام اللجنة الوطنية لنقل التكنولوجيا ذي العدد 18 لسنة 1984 الذي حدد مهمات اللجنة بالاتي:
1.اقتراح المعالم واستنباط الاتجاهات الرئيسة لخطط نقل التكنولوجيا واستراتيجياتها في القطر.
2.وضع اسس الترابط بين الاجهزة القطاعية المتخصصة للحصول على التكنولوجيا وتطويرها.
3.العمل على تحقيق الاساليب المثلى لنقل التكنولوجيا.
4.تقديم الاستشارات الفنية في مجال تطوير التكنولوجيا.
5.تشجيع نقل التكنولوجيا الحديثة وتعميق الوعي باستخداماتها المختلفة.
انجزت اللجنة عددا من الدراسات والبحوث الخاصة بنقل التكنولوجيا وتطويرها منذ تأسيسها وحتى عام 1988 اذ توقف نشاطها بألغاء مجلس البحث العلمي، اعيد بعدها تشكيل اللجنة بموجب القرار ذي العدد 218 في 26/5/1990 وصدر نظام اللجنة ذو الرقم 1 لسنة 1990 الذي حدد ارتباط اللجنة الوطنية لنقل التكنولوجيا بوزارة الصناعة والمعادن، واضيف لمهماتها مهمة التعاون والتنسيق بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الصناعة والمعادن وهيئة التصنيع العسكري في اعداد خطط البعيدة المدى ومتوسطته وقصيرته للتطوير العلمي وخطط ادخال العلوم المختلفة وتطويرها والتعريف بها.
وإنيطت رئاستها بوكيل وزير الصناعة والمعادن. تضم اللجنة في عضويتها ممثلين عن وزارات وهيئات عديدة اهمها الصناعة والمعادن والتعليم العالي والبحث العلمي والنقل والمواصلات والزراعة والتجارة والدفاع والتخطيط وهيئة التصنيع العسكري.
وفي العام 1996 صدر المرسوم الجمهوري ذو الرقم 34/في 21/4/1996 بربط اللجنة الوطنية لنقل التكنولوجيا باللجنة الصناعية لمجلس الوزراء وإنيطت رئاستها باحد اعضاء اللجنة الصناعية بدرجة وزير مع ابقاء عضويتها كما في نظامها المقر، مارست اللجنة الوطنية مهماتها طبقا لاهدافها المحددة بموجب نظامها الداخلي.
ولغرض اعداد الملاكات العلمية اللازمة لنقل التكنولوجيا وتطويرها فقد استحدثت الجامعة تكنولوجية أول مرة في الوطن العربي في بغداد عام 1975 وذلك لاعداد المهندسين التكنولوجين المطلوبين لتنفيذ خطط التنمية الشاملة.
اضافة الى استحداث الكثير من المعاهد الفنية وكليات العلوم والهندسة في جميع ارجاء العراق مما كان له اثره الواضح في تحقيق النهضة العلمية والنقلة التكنولوجية للعراق التي باتت معالمها واضحة في اواخر عقد الثمانينيات واوائل عقد التسعينيات وهو امر مكن العراق بجهوده الذاتية من اعادة اعمار منشآته ومؤسساته التي دمرت تدميرا شاملا في حرب عام 1991 التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية وتحالف اكثر من ثلاثين دولة.
وهذا يعكس جودة النظام التعليمي الجامعي العراقي بعامة ونظام التعليم الهندسي والتكنولوجي بخاصة. وفي العام 2003 أسست وزارة بأسم وزارة العلوم والتكنولوجيا التي كان يؤمل ان تلعب دورا مهما في تطوير العلوم والتكنولوجيا في المرحلة الراهنة، إلاّ أنه قد ألغيت عام 2014 بعد أن تم دمجها بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ولم يعرف لها أي نشاط يذكر.
كما ألغيت هيئة الطاقة النووية العراقية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى منتصف عقد الخمسينيات من القرن المنصرم بعد أن قطعت شوطا مهما في مجالات الطاقة النووية وتطبيقاتها المختلفة، حيث دمرت منشآتها وسلبت أجهزتها ومعداتها العلمية وهجر علماؤها وباحثيها، وكذا الحال بالنسبة لمؤسسات هيئة التصنيع العسكري بدعاوى عدم حاجة العراق إليها، ليعود بذلك العراق إلى عصور ما قبل الصناعة كما أرادت الإدارة الأمريكية المتغطرسة، بينما يتحول العالم اليوم إلى عصر ما بعد الصناعة.