الثقافة كلمة شمولية المعنى، حضارية المبنى، تاريخية الاصل، وهي في اللغة مشتقة من (التثقيف) أي تقويم الاعوج، وكما في (لسان العرب) فان رجلا ثقفا أي سريع التعلم، والثقافة سرعة التعلم. وفي (المعجم الوسيط) ثقف الرجل ثقفا أي صار حاذقا فطنا. اما الثقافة اصطلاحا فهي طريقة فهم الحياة، وكيفية تنظيمها، واساليب عيشها التي تميز مجتمعا عن غيره وتعطيه وجهه الاصيل وهويته الخاصة وهي بالنسبة للفرد عطاء يأخذه عند ولادته ويتطبع عليه في انماط سلوكه، وطرق تفكيره وادراكه لما هو موجود في محيطه. والثقافة ذات طابع جماعي، ومشاركة بين الافراد في المجتمع، وهي التي تخلف التماثل في الذهنيات والانسجام في السلوكيات، كما تعطي خواص التميز من الافراد الذين يعيشون في كنف حضارة اخرى. والثقافة كمفهوم للحياة تشمل على عناصر معنوية وعناصر مادية. والعناصر المعنوية تشمل الافكار والمعتقدات والاعراف والعادات والقيم والاداب العامة والتي تمثل بمجموعها النظام القيمي في المجتمع والذي تعطي طبيعته للثقافة وحدتها وتماسكها وقدرتها على التطور.
اما العناصر المادية فتشمل العنصر البشري ومستوى نضجه وتعلمه، وكذلك المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والمكتبات ودور النشر والتوزيع وحركة وسائل الاعلام، ومع اهمية الدور الذي تؤديه العناصر المادية في الثقافة من خلال الحياة الجمعية المشتركة، الا انها تبقى تمارس دورها ضمن سياق العناصر المعنوية التي تتحكم وتمدها بالطاقة نحو التطور.
ان الثقافة تنمو وتتطور في بيئة اجتماعية معينة، وتحقق عملية تطورها ونموها من خلال تفاعل الانسان مع الطبيعة وعناصرها اللغوية المختلفة وان وعاء تطور الثقافة تتلاقح فيه مستويات ثلاثة هي الافكار والقيم المعنوية، والجانب المادي ومستوى تطور تقنياته والانجازات المتأسسة على عطاء المجتمع في مجال العلوم والاداب والفنون، والرابطة بين هذه المستويات هي اللغة التي هي العنصر الاساسي في منح الهوية الحضارية للمجتمع.
وتبرز اهمية اللغة في صلة الانسان على المستوى الخاص والمستوى العام. فالمستوى الخاص هو مستوى الفرد الذي لايستطيع ان يفكر الا اذا صاغ افكاره في قوالب لغوية، اما على المستوى العام، أي مستوى المجتمع، فان كل ثقافة تحمل جنسية اللغة في مجتمعنا، وان نظام المعرفة في كل ثقافة لابد ان يختلف عن نظام المعرفة في الثقافات الاخرى حيث تؤدي اللغة دورا مباشرا في هذا الاختلاف بحيث يمكن القول ان معرفة لغة معينة لايعني فقط امتلاك وسيلة اتصال جديدة في الحياة، ونما امتلاك مفتاح بوابة الولوج في ثقافة معينة تضع اطلالة على افكار وعادات وقيم وحضارة، أي استيعاب ما يطلق علية (روح اللغة) التي تغني الافكار بالتفاعل اخذا وعطاء في اطار ثقافي يخلق حصيلة تصطف الى جانب عطاء اللغة الام.
والثقافة تضم عوامل تبعث على الحياة والتطور والعطاء، ولاريب في ان تطور وازدهار الثقافة الوطنية يحمل اهمية كبيرة لأن الثقافة جزء لايتجزا من الهوية الوطنية في منظور حضاري يربط جدليا بين الماضي والحاضر نحو المستقبل.
وفي الوقت نفسه تحمل الثقافة عوامل ضعفها وانحسارها وربما تلاشيها لأسباب ذتية من داخل تكوينها او موضوعية من خارجه، وان كلا العومل الداخلية والخارجية تلقي باثارها على كل ثقافة.
وتتلاشى الثقافة عندما يتلاشى شعبها، لكن حقيقة التاريخ تؤكد ان التلاشي لايصيب الشعوب الاصيلة ذات الحضارة والتاريخ، فقد تخبو جذوة الثقافة، وقد تذهب في ضروب شتى ولكنها لاتزول كليا.
وحيث ان الثقافة تنطوي على معنى حضاري، ذلك عندما ترتقي الحضارة الى مستوى عقائدي مؤطر بمنهج سياسي ومن خلال امتلاك سمتين هما استعمال الكتابة وحيازة براءة اكتشافها، فان الامة العربية تمتلك قصب السبق في تفعيل معنى الثقافة وامتلاك مقوماتها، لأن الوطن العربي هو مهد اقدم حضارات العالم في وادي الرافدين ووادي النيل وان الكتابة المسمارية في العراق القديم هي اول اشكال الحرف وصيغ الكتابة بحسب مايذكره التاريخ القديم ويؤكده علماء اللسانيات حيث انطلق الحرف الاول من حضارة العراق في عهد سومر وبابل، كما صيغت القوانين ونظم الادارة، ونظريات الفلك والرياضيات وهندسة الري والجماليات في العراق القديم، وظل العراق بتاريخه وحضارته منطلق اشعاع فكري وحضاري وثقافي على مر العصور .
ومنذ القديم اولى العراق التعدد الثقافي اهمية ورعاية بدلالة ان الكثير من العلماء والادباء والخطباء واللغويين قد اموا العرق، وتفاعلوا مع مدارسه اللغوية وبخاصة مدرستي البصرة والكوفة والمستنصرية وبيت الحكمة.
وفي العصر العباسي كان الطلاب العرب والاجانب يشدون الرحال الى بغداد ليدرسوا في مدارسها.. وقد ازدهرت في العراق على مر التاريخ كل عناصر الابداع وتلاقحت ثقافته مع ثقافات الشعوب الاخرى اخذا وعطاء وذلك ما اطلع عليه المستشرقون وادركوه حق اداركه حتى لو لم يتناوله بعضهم بانصاف.
لذا فان مستقبل ثقافتنا العربية انما يعتمد على الاهتمام باحياء تراثنا العربي الاسلامي وعلى درجة تسامح وانفتاح مجتمعاتنا العربية وشفافيتها تجاه ثقافات وعلوم وفنون الشعوب الاخرى ،وعدم الانغلاق على الذت.
ويمكن ان تؤدي الجامعات والمؤسسات التعليمية والثقافية دورا مهما في هذا المجال لتامين مستقبل ثقافي زاهر لبلادنا باذن الله، كي تسهم اسهاما فاعلا ومؤثرا في الثقافة الانسانية المعاصرة وبناء صرح امتنا الحضاري وتعزيز دورها الانساني.
ولعل من المفيد ان نشير هنا الى اهتمام اعداء بلادنا بالثقافة اذ يشير (جيروم ويستر) مستشار الرئيسين الأميركيين كندي وجونسون الى ان قضايا العلوم والثقافة مثلت منذ الحرب العالمية الثانية تحديا لا نظير له للرئيس الاميركي.
كما يرى الرئيس الأميركي الدرس هكسلي ان الحضارة الحالية تعمل جهدها لانشاء قبيلة واحدة تتكلم اللغة الاميركية، بينما يرى البريطاني هربرت سبنسر ان ازدهار العلم وانتشار ثماره مرهونان بمدى عظمة الثقافة الانكليزية وتطور قيمها الانسانية التي تسمح لنا بالقبض على معنى التقدم واسراره.
وفي المقابل يحاول بعض مفكري الغرب الاقلال من شان حضارتنا العربية والاسلامية اذ يشير غويه مثلا الى ان ممتلكات العرب الخاصة هي الخيمة والعمامة والسيف، ويشير امرسون الاميركي الى ان الدين والشعر هما كامل حضارة العرب، متجاهلين عن عمد وسبق اصرار ما قدمه العلماء العرب منذ حضارة سومر واشور وبابل واكد وحضارة وادي النيل والحضارة العربية الاسلامية في عصورها المختلفة من اكتشافات وانجازات علمية بارزة في حقول المعرفة المختلفة من رياضيات وجبر وكيمياء وفلك وفلسفة وهندسة وغيرها والتي كان لها الاثر في الحضارة الانسانية بعامة والحضارة الغربية بخاصة باعتراف الكثير من علماء الغرب انفسهم وما تؤكده الشواهد التاريخية الشاخصة في يومنا هذا فالكتابة والعجلة مثلا وهي اهم اكتشافات التاريخ انما يعود فضل اكتشافها الى العراقيين القدماء، وكذا الحال بالنسبة للكثير من الحسابات الهندسية والرياضية، وما اهرمات مصر وحدائق بابل الا خير شاهد ودليل على عظمة وابداعات المهندسين العراقيين والمصريين القدماء.
ان العراق وطن الحضارة والتاريخ والاشعاع العلمي ظل عصيا على الاعداء في كل حقب التاريخ، حتى في المرحلة المظلمة التي دنس فيها هولاكو والمغول ارض العراق، وقد القى بالكتب والمخطوطات في نهر دجلة، لم يستطيع ان يقهر ارادة الانسان العراقي، ولم يطفئ شعلة التوهج في بغداد.
وهكذا كان حال كل الغزاة والمعتدين الذين استهدفوا العراق، وفي التاريخ المعاصر يشمخ العراق ببنائه ومعطياته بتحقيق صناعة ثقافية وطنية تمثل تجربة رائدة متميزة، ومع تعرض بناها للعدوان الغاشم على مدى السنوات الماضية كما في قطاعات الحياة الاخرى لاتزال وتحت وطاة الإحتلال تقاوم وتبدع..
فحري بنا نحن ابناء العراق العظيم ان نحث الخطى لبناء مشروع العراق الثقافي والحضاري، ورفض الظلم والتخلف والعدوان ومحاولات طمس الهوية الوطنية، والدعوة الى الانفتاح والتعددية الثقافية والتلاقح بين الافكارالإنسانية، وتاكيد حق الشعوب ومنهجها في الحياة على وفق الخصوصية الوطنية والقومية وبمنظور انساني بعيدا عن الهيمنة والوصاية والتدخل.