كان العراق منذ نشأته وتكوين دولته الحديثة، وما يزال وسيبقى بإذن الله بلدا متعدد الأديان والطوائف والقوميات.
ورد في مقولة شهيرة منسوبة للملك فيصل الأول الذي نصبه الأنجليز عبر إستفتاء شعبي ليكون أول ملك ليحكم العراق عام 1921: "أقول وقلبي ملآن أسىً إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل..
هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي". كما يصف المملكة العراقية بقوله: "العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، وأكثرية شيعية جاهلة تنتسب عنصرياً إلى نفس الحكومة"، مما يعني أن الحكومة التي شكلها الملك فيصل ذات صبغة طائفية وأثنية معينة بصرف النظر عن الأسباب والدوافع التي أدت لذلك، الأمر الذي خلق فجوة وتسبب بحالة إنفصام بين الحكومة وغالبية الشعب العراقي من الكرد والشيعة، تمخضت عنها صراعات لسنين طويلة تحت واجهات مختلفة من أجل بناء دولة المساواة بين جميع سكان العراق بصرف النظر عن إنتماءاتهم القومية والدينية والطائفية.
وبمرور الزمن وإنتشار التعليم في عموم العراق فقد تغير الحال نسبيا، حيث إنخرطت بقطاع التعليم أعداد متزايدة من ابناء الشيعة والكرد بالمدارس الحكومية المختلفة بعد إمتناعهم سنين طويلة بدعاوى بعض رجال الدين الذين أفتوا بحرمة هذا النمط من التعليم، وبذلك أصبح بإمكانهم التوظف في السلك الحكومي والتدرج فيما بعد في الوظائف الحكومية.
وبرغم ذلك فقد ظلت معظم الوظائف الحكومية العليا بعامة والعسكرية بخاصة بأيدي الطائفة السنية. ومما زاد في حرمانهم من التوظيف، إنخراط أعداد غير قليلة من المتعلمين الشيعة والكرد في صفوف الحزب الشيوعي العراقي المحظور في العراق. شهد العراق في العقد الأخير من حقبة الحكم الملكي الذي أسقط بإنقلاب عسكري عام 1958، تحسنا ملموسا في تقلد الشيعة والكرد لبعض الوظائف القيادية في الدولة، أبرزها رئاسة الوزراء وبعض المناصب الوزارية المرموقة، نذكر منهم هنا صالح جبر والدكتور فاضل الجمالي وعبد الوهاب مرجان واحمد مختار بابان، إلاّ أن المناصب العسكرية العليا بقيت في أيدي الضباط السنة الذين لعبوا دورا بارزا في الحياة السياسية العراقية حيث كانوا أدوات فاعلة في الإنقلابات العسكرية التي مكنتهم من الإستيلاء على السلطة لسنين طويلة بعد تخلصهم من النظام الملكي. ولم تتغير الخارطة الطائفية إلاّ بعد غزو العراق وإحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 التي إعتمدت نظام الطائفية السياسية علنا ودون موارية، فقد كان للسياسين الشيعة الغالبية في تركيبة النظام السياسي الجديد. وهو أمر نجم عنه صراع طائفي دامي قادته بعض المجاميع التي خسرت السلطة بدعم وتحريض إقليمي مكشوف تحت يافطة مقاومة الإحتلال التي وجهت حرابها نحو مواطنيهم الآمنين دون ذنب سوى كونهم من طائفة أخرى ما زالت بعض فصوله مستمرة حتى يومنا هذا، ويا ليتها وجهتها نحو رقاب من أسقطوا العراق في شباك المحتلين الذين لم يواجهوا أية مقاومة بدخول مدنهم وقراهم، وكانوا بالنتيجة هم أكثر سكان العراق تضررا وتدميرا. ولبناء عراق دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع ويعيشوا في أمن وآمان وينعموا جميعا بخيرات بلادهم، لا بد أن تتضافر جهود الخيرين ويقر الجميع حكاما ومحكومين ثوابتا وطنية محددة لتكون ميثاقا وطنيا شاملا جامعا، ليخرج العراق من الظلمات إلى النور، نوجز هنا أبرز هذه الثوابت:
أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والطوائف، لا يجوز لأية قومية أو دين أو طائفة بعينها، التفرد بالسلطة تحت أي ظرف أو أية ذريعة.
أن العراق بلد غير قابل للتجزئة شئنا ذلك أم أبينا، حيث تتشابك فيه القوميات والأديان والطوائف، التي لا يمكن فصلها عن بعضها في الكثير من مناطقه، وبخاصة في محافظات بغداد والموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين.
أن العراق وحدة جغرافية مترابطة مع بعضها، تعتمد كل منطقة على ثروات المناطق الأخرى، فالثروة النفطية مثلا تتركز في جنوب العراق، بينما تتركز الموارد المائية في شمال العراق، وهو أمر يؤكد حاجة كل طرف إلى الطرف الآخر، مما يحتم ضرورة التعايش السلمي والعيش المشترك لمصلحة الجميع.
أن العراق الحديث الذي تشكل من ولاية بغداد والجزء الأعظم من ولايتي الموصل والبصرة بعد إنسلاخه من الدولة العثمانية وتخلصه من الإحتلال البريطاني عام 1921، ليس كيانا مصطنعا أوجدته المصالح الإستعمارية البريطانية كما يزعم بعض دهاقنة المستعمرين وتروج له بعض الأقلام المأجورة، فالعراق كان موجودا منذ الأزل، مهدا لأقدم الحضارات التي عرفتها البشرية، وشواخصها ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر، برغم بكل ما حل بالعراق من ويلات ونكبات، كان آخرها ما قام به تنظيم داعش الإرهابي عام 2014 من تدمير بعض معالمه في الموصل ومناطق أخرى على مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يحرك احد ساكنا. عرف العراق قديما ببلاد الرافدين وبلاد النهرين أو أرض السواد أحيانا.
أن الحديث عن إتفاقات سايس بيكو سيئة الصيت التي قسمت بموجبها البلاد العربية بين المستعمرين البريطانيين والفرنسين لا تعني العراق فقط، بل عموم البلاد العربية التي كان شريف مكة المكرمة الحسين بن علي يطمح بتوحيدها في دولة عربية واحدة، وهي بحد ذاتها لم تنشأ العراق الحديث، بل فصله عن البلدان العربية الأخرى، وتتويج الأمير فيصل أبن الحسين ملكا عليه عام 1921 عبر إستفتاء شعبي أجراه البريطانيون، ووضعه تحت الإنتداب البريطاني حتى عام 1930، ودخوله عصبة الأمم ليكون بذلك أو بلد عربي ينال عضويتها، بينما إستمرت بلدان عربية كثيرة ترزح تحت نير المسعمرين.
أن الديمقراطية بمفهومها الصحيح لا تعني هيمنة قومية أو دين أو طائفة بحكم كثرتها العددية، أوتهميش أو إقصاء الآخرين من القوميات والأديان والطوائف الأخرى على الإطلاق، في ظل غياب أحزاب وطنية شاملة لجميع القوميات والأديان والطوائف.
أن العراق وطن الجميع، وهو أمر يستلزم ضمان حقوق جميع أبنائه بالعيش الكريم والتمتع بخيراته، ومشاركتهم جميعا ببنائه كل حسب مؤهلاته وقدراته.
لا يجوز قيام نظام سياسي على أساس التمايز العرقي أو الديني أو الطائفي تحت أي مسوغ.
تحريم حمل السلاح من قبل أية جهة كانت تحت أي مسمى أو أي ظرف كان، وأن يكون حمل السلاح حصرا بالقوات المسلحة العراقية بصنوفها المختلفة من جيش وشرطة وقوات أمنية.
أن تكون القوات المسلحة العراقية شاملة وجامعة لعموم الشعب العراقي وحامية لأمنه وإستقراره وحمايته من أي عدوان خارجي أو أي تمرد مسلح داخلي، وأن لا تكون هذه القوات مسيسة لأية جهة كانت بحيث تكون خارج الصراعات السياسية في جميع الظروف والأحوال.
1.نبذ كل أشكال العنف والتطرف الفكري والقومي والديني والطائفي، ومحاربة الإرهاب تحت أي مسمى كان.
2.إسدال الستار على كل مآسي الماضي والحاضر وتركها لذمة التاريخ.
3.إبطال جميع القوانين لتي تمس كرامة المواطنين أو تهدر حقوقهم أو تصادر حقوقهم السياسية.
4.محاسبة الفاسدين والمفسدين والراشين والمرتشين وناهبي المال العام أو الخاص في إطار القانون المدني العام.
5.إشاعة ثقافة القانون المدني ليكون الفيصل في جميع قضايا المواطنين، ومنع العمل بقوانين العشيرة أو القبيلة البائدة التي أكل عليها الدهر وشرب.
6.الإقرار أن دستور البلاد قد أعد وأقر في ظروف إستثنائية شاذة أثناء فترة الإحتلال، دون مشاركة قطاعات واسعة من الشعب برغم إقراره في إستفتاء شعبي من غالبية الشعب، مما يستلزم إعادة نظر جادة وشاملة في بنود الدستور ليكون أكثر تعبيرا عن واقع العراق السياسي وتأكيد إنتمائه الإقليمي والدولي.
وإذا ما أقرت هذه الثوابت الوطنية، فإنها ستكون مدخلا صالحا لبناء دولة المواطنة العراقية، وضمانا لوحدة العراق، بعد أن آل ما آل إليه حاله من تشرذم وإنقسام وهدر لثرواته وممتلكاته وإزهاق أرواح النفوس العراقية البريئة، وبات مرتعا للإرهاب الدولي وساحة لتصفية الحسابات بين قوى محلية وإقليمية ودولية لا يهم أي منها سوى مصالحها الذاتية دون أي إعتبار لمصالح العراق وأهله، الذين أصبحوا مشردين في بلادهم وبلدان العالم المختلفة، بعد أن كانوا كراما أعزة في بلادهم، وقناعة جميع الكتل السياسية بتعذر فرض رأي أو وجهة نظر أي منها على الكتل الأخرى.
ويحدونا الأمل أن تسود الحكمة ورجاحة العقل لدى الجميع بتغليب مصلحة العراق العليا فوق جميع المصالح الفئوية الضيقة، للبدء بحوار وطني حقيقي بين جميع مكونات الشعب العراقي وقواه السياسية الفاعلة،وإسهام مبدعيه ومفكريه ومثقفيه،تحت خيمة العراق الواحد الموحد، بعيدا عن مداخلات القوى الإقليمية والدولية تحت أية صفة كانت، للتوافق على حلول وسط لا يكون فيها هناك غالب أو مغلوب.
وبذلك يمكن أن نتطلع إلى مستقبل أفضل لبلادنا ينعم فيها أهلنا بحياة آمنة ومستقرة بإذن الله.
ولعلنا نشهد في المرحلة القادمة إنفراجا واضحا في محنة العراق وشعبه التي باتت وكأنها محنة عصية على الحل كما يخطط لذلك كل أعداء العراق في السر والعلن.