أتزدهر الدول المختلفة على مر العصور بفضل مفكريها ومبدعيها في صنوف المعرفة المختلفة، إذ يلعب المبدعون والمبتكرون والمخترعون دورا هاما في تطور بلدانهم وتقدمها. وفي عصرنا الراهن ازدادت أهمية النشاطات الإبداعية أكثر من أي وقت مضى، لما لها من انعكاسات بارزة على جهود التنمية المستدامة التي تبذلها الدول المختلفة لتحسين مستوياتها المعيشية، ورفع قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية لتحقيق عوائد مالية اكبر، ذلك أن الإبداعات والإبتكارات والمخترعات العلمية والتقنية الناجمة من أنشطة البحث والتطوير تساعد كثيرا على تحقيق معدلات تنمية اقتصادية عالية، إذ أنها توفر منتجات جديدة ، أو عمليات تصنيع جديدة تسهم بزيادة الإنتاجية، أو حتى ظهور صناعات جديدة.تقاس قدرة الدول التنافسية عادة بقدرة مؤسساتها الإنتاجية على إنتاج البضائع والسلع التي يمكن تسويقها، مع الحفاظ على، أو تحسين مستويات بلدانها المعيشية.
لذا يعد النمو الاقتصادي ومستوى المعيشة والإنتاجية، المؤشرات الرئيسية لقياس قدرات الدول التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية. تشير الإحصاءات العالمية إلى أن الشركات والمؤسسات المبدعة تكسب حصصا أكبر في الأسواق المحلية والعالمية، وذلك بتوفيرها منتجات صناعية جديدة، وباستخدامها لمواردها بصورة أكثر إنتاجية، وبإنتاجها سلعا ذات قيمة مضافة عالية. لذا فقد اهتمت الدول الصناعية الكبرى بالصناعات ذات التقنيات المتقدمة المستندة إلى الإبداع والابتكار بصورة كثيفة. ولأن الجامعات ومراكز البحوث العلمية هي احد أهم مصادر الإبداع العلمي والتقني وإثراء المعرفة، لذا ينبغي الاهتمام الفائق بالجامعات ومراكز البحوث وبما يساعدها على تنمية الإبداع ورعاية المبدعين وذلك بخلق البيئة العلمية التي يمكن أن يتجلى فيها الخلق والإبداع بأبهى صوره. ولكي تؤدي الجامعات وظيفتها بتنمية مجتمعاتها بوصفها احد أهم أدوات التغيير الاجتماعي والاقتصادي في أي بلد من البلدان، لذا يتطلب أن تقوم الجامعات بتطوير مناهجها الدراسية وأساليب التدريس فيها لتطوير عملية الخلق والإبداع واكتشاف المبدعين والإفادة من إبداعاتهم وتوظيفها بكفاية وفاعلية لأغراض التنمية الشاملة. كما انه علينا أن ندرك أن عملية الإبداع في تغيير مستمر في مجتمعات اليوم التي باتت تعرف بمجتمعات المعرفة والإبداع العلمي والتقني بسبب تأثيرات التطورات التقنية المتسارعة، ولاسيما في مجالات تقنيات المعلومات والاتصالات، والتقنيات الإحيائية والصيدلانية، والمواد المتقدمة. كما لم يعد الإبداع ينحصر في بلد معين بذاته، الأمر الذي دفع المؤسسات الصناعية والإنتاجية إلى نقل اهتماماتها من مراكز البحث والتطوير المحلية الى مراكز البحث والتطوير الدولية عبر شراكات وتعاقدات بين أطراف دولية متعددة تؤدي الجامعات فيها دورا رئيساً، إذ لم تعد الجامعات مصدر الخلق والإبداع وإنماء المعرفة وإثرائها حسب، بل هي اليوم احد أهم مصادر نقلها إلى المؤسسات الصناعية والإنتاجية وتوظيفها في حل المشكلات الإنتاجية والمعضلات التقنية. لقد تعززت العلاقات أكثر فأكثر بين المؤسسات والجامعات في بلدانها وخارجها حيثما توفرت البيئة العلمية المناسبة للخلق والإبداع. ويمثل الإبداع احد أهم مفاتيح الرفاهية في اقتصاد المعرفة إذ انه يحول الأفكار والمعرفة إلى منتجات وخدمات مفيدة وملبية لحاجات المجتمع، وتنميته وتقدمه ورقيه بأشكال وأساليب مختلفة.
وهذا يتطلب دعم البحوث العلمية التطبيقية التي تتسم بالأصالة والإبداع والابتكار، وتسهيل سريان العلوم والتقنية خلال منظومات راقية في جميع مفاصل المجتمع ومؤسساته المختلفة.
وتقوية روابط الشراكة بين الجامعات والمؤسسات الإنتاجية المختلفة، وتعزيز مهارات الباحثين وزيادة حوافزهم كي ينقلوا أفكارهم العلمية إلى حقل العمل وتحويلها إلى منتجات نافعة يمكن تسويقها والإفادة منها.
ولكي تؤدي الجامعات هذا العمل بكفاية وفاعلية لابد ان تتميز بحوثها ونظمها التعليمية وبرامجها ومناهجها الدراسية بالجودة العالية، والإبداع والخيال الخصب. تبذل الدول المختلفة جهوداً حثيثة لزيادة قدرات مواطنيها الإبداعية والمهارية والمعرفية بجميع الوسائل الممكنة لتحسين أداء مؤسساتها الإنتاجية ورفع قدراتها الإنتاجية اذ أن نجاح أي بلد من البلدان بات يتوقف بالدرجة الأساس على مهارات وإبداعات مواطنيها وامتلاكهم المعارف والعلوم المختلفة وقدرتهم على توظيفها في حل المعضلات التقنية والمشكلات الإنتاجية التي تواجهها مؤسساتها المختلفة ورفع كفاية أدائها، مما يتطلب العمل على تهيئة البيئة المناسبة التي يتجلى فيها الخلق والإبداع بأبهى صوره وخلق المجتمع العلمي المتفاعل دوما مع العلوم والمعارف المختلفة والقادر على توظيف نتائج البحوث العلمية ومعطيات التقنية لمصلحة المجتمع ورفاهيته، اذ يعتمد الإبداع بصورة أساسية على المعرفة والمجازفة المحسوبة وقدرات أفراد المجتمع الخلاقة وتأمين الاستثمارات المالية المطلوبة لإنجاز الإبداع وخلق القاعدة العلمية والتقنية التي يمكن ان تستند اليها الإبداعات والمخترعات.
ترصد الشركات العالمية التي تعتمد العلوم والتقنية بكثافة، مبالغ مالية لدعم المبدعين وذوي المواهب العلمية والتقنية المتميزة. ولغرض تشجيع الإبداع والمبدعين فقد استحدثت العديد من الدول هيئات متخصصة مؤلفة من كبار العلماء لرعاية الإبداع والمبدعين وتوفير جميع وسائل اكتشافهم وتشجيع استثمار إبداعاتهم بكل الوسائل الممكنة. ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى تجربة العراق في ظروف الحصار الذي فرض عليه سنين طويلة دون وجه حق حيث استحدثت مثل هذه الهيئات في جميع وزارات الدولة في أواخر عقد التسعينيات بموجب قانون خاص شرع لهذا الغرض.
وقد اعتمدت التخصيصات المالية اللازمة لعمل هذه الهيئات التي باشرت عملها بصورة فعلية ولاسيما الهيئة المشكلة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي كان لي شرف رئاستها لعدد من السنين، إذ تم تبني الكثير من هذه الإبداعات التي شاركت بحل معضلات تقنية واجهتها بعض المؤسسات الإنتاجية في ظروف الحصار الجائر، أو في صنع أجهزة ومعدات أو إيجاد مواد محلية بديلة لمواد كانت تستورد من خارج العراق لم يعد بالإمكان استيرادها لأسباب كثيرة، او غيرها الكثير الكثير بما في ذلك تطوير منظومات عمل أو سواها إذ كما يقال إن الحاجة ام الاختراع.
ولعبت آلية التعاون بين الجامعات ومؤسسات الدولة المختلفة التي إعتمدتها الدولة بتوجيه مباشر من رئاسة الجمهورية دورا هاما جدا بتعزيز الشراكة الفاعلة بين الجامعات والمؤسسات الإنتاجية، حيث أسهمت بحل الكثير من المعضلات التي أفرزها الحصار الظالم الذي كان يستهدف إيقاف عجلة الحياة في العراق والعودة به إلى عصور ما قبل الصناعة كما صرحوا بذلك جهارا نهارا. كما لعب باحثو مركز إباء للبحوث الزراعية الذي كان مرتبطا مباشرة برئاسة الجمهورية هو الآخر دورا بارزا بتطوير الثروة الزراعية والحيوانية في العراق في ظروف الحصار الظالم بتوفير المنتجات التي كان يحتاجها العراق دون الحاجة لإستيرادها، وتطوير أصناف وسلالات أكثر ملائمة لظروف البيئة العراقية ،ومقاومة للأملاح والكثير من الآفات، وذات غلة إنتاجية أفضل. وتكريما لعلماء العراق ومبدعيه فقد صدر قانون خاص برعاية العلماء عام 1993 والذي وضع موضع التطبيق عام 1998 بتكريم نخبة من علماء العراق في مختلف التخصصات العلمية. كما تشكلت هيئة بمرسوم جمهوري عام 2000 لتكريم كبار العلماء والمفكرين والمبدعين في عشرة تخصصات علمية مختلفة، وقد كنت أحد أعضاء هذه الهيئة، وكان من المقرر الإعلان عن أسماء ممن سيشملهم التكريم بعد أن إستكملت الهيئة دراسة ملفاتهم العلمية في نيسان عام 2003، لكن ظروف غزو العراق وإحتلاله حينذاك قد حالت دون ذلك، بعدها أصبح علماء العراق غير آمنين على حياتهم مما إضطر الكثيرين منهم إلى الهجرة طلبا للأمن والآمان. وتكريما للعلم والعلماء فقد خصص في عقد التسعينيات يوم خاص بيوم العلم من كل عام تقام فيه الإحتفالات ويكرم فيه من له إنجازات علمية مميزة.
ولعل تجربة إعادة إعمار العراق في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1992 وما لحق بمؤسساته العلمية والصناعية وبناه التحتية من دمار وخراب، في فترة وجيزة بتضافر جهود علماء العراق ومهندسيه ومبدعيه برغم شح المواد وفرض الحصار الشامل، إلاّ دليل ساطع على قدرة العلماء والمهندسين العراقيين وإبداعاتهم التي كان من المؤمل الإستفادة منها بتوفير مستلزمات لحياة الكريمة للعراق والعراقيين بعيدا عن حسابات المصالح الفئوية الضيقة، من منطلق أن العراق وطن الجميع.
وهكذا كان الحال في العراق في ظروف الحصار فقد دفعت الحاجة علماء العراق ومبدعيه الى انجاز الكثير من الإبداعات والاختراعات لتأمين الكثير من حاجاته عبر شراكة حقيقية بين الجامعات ومؤسسات المجتمع المختلفة. فالجامعات كما هو معروف مصدر الإبداع وإثراء المعرفة وأحد أهم أدوات التغيير في أي مجتمع من المجتمعات قديمها وحديثها على السواء. وللأسف بات العراق اليوم يستورد جميع حاجاته المعيشية من دواء وغذاء وسواها من خارج العراق بعد أن عطلت مؤسساته الإنتاجية الصناعية والزراعية والعلمية، وتحولت جامعاته برغم كثرتها إلى مؤسسات خاوية لا هم لها سوى منح الشهادات الورقية لمن يطلبها ، دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل لإنقاذها من منحتها في القريب العاجل. وعلى الرغم من أن البلدان العربية أفضل حالا من العراق، ألاّ أنها ما زالت متخلفة كثيرا في مجال الإبداع والإبتكار ،فقد أظهر مؤشر الإبتكار العالمي لعام 2017 في إصداره العاشر بجنيف والذي إشترك بإعداده كل من المنظمة العالمية للملكية الفكرية وجامعة كورنيل الأمريكية والمعهد الأمريكي لإدارة الأعمال، ترتيب البلدان العربية في سلم الإبتكار العالمي كالآتي: الإمارات العربية المتحدة في الموقع (35) دوليا، تلتها قطر (49)، المملكة العربية السعودية (55)، الكويت (56)، البحرين (66)، المغرب (72) تونس (74)، سلطنة عمان (77)، لبنان (81)، الأردن (83 )، مصر ( 105) ، الجزائر (108)، اليمن (127). ولم يرد أي ذكر للبلدان العربية الأخرى. كانت سويسرا والسويد وهولندة والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في مقدمة الدول ألأفضل إبتكارا. وأظهر التقرير الهند كأبرز مركز إبتكاري ناشئ في آسيا، وارتفاع الأداء الابتكاري المرتبط بالتنمية في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكشف عن الفرص المتاحة لتحسين القدرة الابتكارية في أمريكا اللاتينية والكاريبي. وقال المدير العام المنظمة العالمية للملكية الفكرية فرانسس غري في هذا الصدد:”إنّ الابتكار هو محرّك النمو الاقتصادي في اقتصاد عالمي يزداد اعتمادًا على المعرفة، ولكن المزيد من الاستثمار في الابتكار ضروري لتعزيز الإبداع البشري والانتاج الاقتصادي”. وأضاف قائلا: ”يمكن للابتكار أن يساعد على تحويل الانتعاش الاقتصادي الحالي إلى نمو طويل الأجل".
ومن هنا فأن ثمة جهود حقيقية يجب أن تبذلها البلدان العربية لتحسين أداء بلدانها في مجالات الإبداع والإبتكار وذلك عبر تطوير منظوماتها التعليمية القائمة على إكتشاف القدرات الإبداعية والإبتكارية لطلبتها والعمل على صقلها وتطويرها، ذلك أن الإبداع والإبتكار بات لا يقل أهمية عن الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة وتوفر رأس المال في التنمية الإقتصادية لأي بلد من البلدان، وما تجربة اليابان وسنغافورة وبلدان أخرى كثيرة بعيدة عن الأذهان.