تواجه معظم البلدان العربية أزمة مياه حادة حيث أن معظم مصادر المياه تقع خارج حدود هذه البلدان. تشير الدراسات الى أن (67% ) من موارد المياه العربية تنبع من بلاد غير عربية حيث تحاول هذه البلدان أستغلال هذه المياه لصالحها على حساب مصالح البلدان العربية المشروعة، دون مراعاة لحرمة جوار أو لمواثيق دولية تحدد حقوق جميع الدول المستفيدة من هذه المياه على مر العصور والأزمان.
ولعل مشروع الجاب التركي ومشروع تانا الأثيوبي خير مثالين لتأكيد هذه الحقيقة. وتزداد الأمور تعقيدا" أذا علمنا أن العديد من البلدان العربية يعاني من مشكلات الجفاف والتصحر وتعتمد في غذائها على ماتستورده من بلدان أخرى.
تقدر مساحة الأراضي الصحراوية في الوطن العربي قرابة ( 69%) من مجموع مساحة الوطن العربي، وتزحف هذه الصحاري على الأراضي الزراعية بمعدل( 15) كم/ سنة. قدر العجز المائي في الوطن العربي بنحو ( 150 ) مليار متر مكعب في العام 2000، منها في مصر على سبيل المثال أكثر من (13) مليار متر مكعب، وفي سوريا أكثر من مليار متر مكعب، ومنذ ذلك الحين ومشكلة العجز المائي تتفاقم بسبب عجز الحكومات العربية من معالجتها، فضلا عن الزيادات المطردة بعدد السكان وعدم إعتماد هذه الحكومات سياسات لترشيد إستخدام هذه المياه. لذا يتوقع أن تكون المياه مصدر صراعات وربما حروب بين دول المنبع والمصب حول تحديد حصصها المائية ما لم يتم التصدي لها ومعالجتها على وفق مباديء القانون الدولي بالحق والعدل.
لم يكن العراق حتى وقت قريب يعاني من أي عجز مائي على الإطلاق، بل على العكس من ذلك تماما كان من البلدان المهددة بالفيضانات في بعض المواسم بسبب وفرة هذه المياه، لذا كانت الجهود في السابق منصبة لحماية المدن من هذه الفيضانات، ولم يدر في خلد أحد أن العراق سيعاني يوما من شح المياه بفضل ما حباه الله من خير عميم بفضل نهري دجلة والفرات الخالدين وروافدهما، إذ تعد هذه الأنهار المصدر الرئيسي للمياه، تليها مياه الأمطار والمياه الجوفية، إلاّ أن قيام تركيا في العقود الأخيرة ودون تنسيق مع العراق بوصف العراق شريكا تاريخيا مع تركيا بهذين النهرين العظيمين، لا يجوز لطرف أن يتصرف بمعزل عن الطرف الآخر وإلحاق أضرار فادحة مستدامة بمصالحه دون وجه حق، بإنشاء سدود عملاقة على نهري دجلة والفرات المصدرين الأساسيين للموارد المائية العراقية، مما حرم العراق من كمية المياه التي يحتاجها والتي هي حق مشروع من حقوقه التاريخية المكتسبة بموجب القانون الدولي الذي يقضي بعدم جواز تغيير أو تحويل مجرى النهر الذي يعبر بصورة طبيعية من اراضي دولة إلى أراضي دولة أخرى عبر منشآت مثل السدود وغيرها بفرض التحويل أو التغيير دون أخذ موافقة الدول المشاركة في النهر.وتسعى تركيا إلى فرض وجهة نظرها من خلال السياسة المائية، التي تقوم على مبدأ الاستخدام والإدارة التكاملية للموارد المائية، ورفض مبدأ تقاسم الموارد المائية المتاحة على وفق الأعراف ومبادئ القانون الدولي وعلاقات حسن الجوار.
باشرت تركيا العمل في مشروع "جاب" الذي يضم ( 22) سدا و(19) محطة للطاقة الكهربائية ومشروعات أخرى متنوعة في قطاعات الزراعة والصناعة والمواصلات والري والاتصالات. ويعد مشروع جاب الأضخم في العالم من حيث المساحة، ويشمل ثماني محافظات تركية، وعند إتمامه تقارب مساحة الزراعة المروية من خلاله ( 8.5 ) مليون هكتار أي نحو ( 19% ) من مساحة الأراضي المروية في تركيا، ومن أهم سدود هذا المشروع سد أتاتورك، الذي دشن في تموز 1992 ويقع على نهر الفرات.
وترى تركيا أن ما ستمتلكه من مياه سيوفر لها ثروة وطنية تعادل ما تمتلكه دول المنطقة من النفط، وهذا ما جاء على لسان رئيس تركيا الأسبق، سليمان ديميرل، في حفل افتتاح سد أتاتورك، إذ قال إن "مياه الفرات ودجلة تركية، ومصادر هذه المياه هي موارد تركية، كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراق وسوريا، ونحن لا نقول لسوريا والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية، ولا يحق لهما القول إنهما تشاركانا مواردنا المائية، إنها مسألة سيادة".
قامت إيران هي ألأخرى بقطع المياه عن اكثر من ( 45 ) رافدا وجدولا موسميا كانت تغذي الأنهار والاهوار في العراق, أهمها أنهار الكرخة والكارون والطيب والوند وهو شياري.
كما قامت بإنشاء سد (غاران) الواقع شرق مدينة مريوان الإيرانية، والذي بني على المياه المتدفقة الى نهر سيروان في كردستان العراق، مما سيكون له تأثير كبير على كمية المياه في سد دربندخان، إذ إن ( 70%) من تدفق المياه يأتي من هذا النهر. وهنالك مشاريع أخرى تحت الإنشاء شرقي إيران، يتوقع الانتهاء من بعضها قريباً، وبعض هذه المشاريع له تأثير سلبي ليس فقط على كمية مياه دربنديخان، بل على سدود وأنهار أخرى في العراق. كما أنشأت إيران سد “كتوند” على نهر كارون الإيراني، وعلى مقربة من منجمٍ للملح؛ مما أدّى إلى ملوحة المياه العذبة وانتقال الملح إلى التربة الخصبة في البصرة وجفاف بساتين النخيل فيها.
وفي العام 1968 باشرت الحكومة السورية في بناء سد الطبقة على نهر الفرات في محافظة الرقة، ويعتبر هذا السد واحدا من أكبر السدود في سوريا والوطن العربي، للإستفادة منه في مشاريع زراعية وتوليد الطاقة الكهربائية وتخزين كمية كبيرة من المياه. وقد تم إنشاء هذا السد دون أية مراعاة لحقوق العراق المائية.
ويرى متخصصون في شؤون المياه والقانون الدولي أن السياسات المائية لدول الجوار العراقي التي تتشارك مع العراق في الأنهار، تتميز بقدر غير قليل من الاستغلال وفرض الأمر الواقع وعدم مراعاة ظروف العراق واحتياجاته من المياه سواء لأغراض الزراعة أو أغراض الاستهلاك الاخرى، علما ان الحصة المائية الداخلة الى العراق من جهة سوريا اقل من (200 م3/ ثانيه) في حين ان الاتفاق بحسب تصريحات المسؤولين العراقيين هو (500م3 / ثانية) بنسبة( 58%) وحصة سورية (42%) على اعتبار ان مساحة العراق وأراضيه الزراعية أكبر.
ويرى خبراء أن أفضل الحلول لمعالجة نقص المياه في العراق، إنشاء "سد بخمة " وهو أحد مشاريع مجلس الإعمار الذي أسسته حكومة نوري السعيد في العهد الملكي، حيث أن مياهه ستتجمع من داخل العراق وليس من خارجه، وإذا ما تم انجازه " فإن العراق لن يعاني شحاً في المياه على الإطلاق حسب آراء بعض خبراء المياه العراقيين. ويعد "سد بخمة" من حيث السعة والأهمية ثاني سدود العراق ضخامة بعد سد الموصل العملاق الذي يتسع بكامل طاقته التشغيلية لأكثر من (15 ) مليار متر مكعب. تشير بعض تقارير وزارة الموارد المائية إلى أن العراق خسر نحو ( 30% ) من كمية المياه التي كان يحصل عليها من نهري دجلة والفرات، وخلال سنوات قليلة سيخسر( 50% ) من حصته التاريخية، وذلك من دون حساب تأثيرات المناخ وأزمة الاحتباس الحراري العالمية.
ويوضح التقرير ان "العراق كان يحصل على (33) مليار متر مكعب سنويا من المياه في نهر الفرات، أما اليوم يحصل على (16) مليار متر مكعب والشئ نفسه مع نهر دجلة. وأشارت ندوة خاصة بنقص المياه في العراق، إلى ان هناك آثارا اقتصادية وزراعية وسياسية سلبية تترتب على العراق عند اكتمال سد اليسو التركي، فعلى الصعيد الاقتصادي سيؤثر اكتمال السد بشكل مباشر على تقليص مياه نهر دجلة من ( 21 ) مليار متر مكعب في السنة إلى ( 9.7 ) مليار متر مكعب في السنة وهذا يشكل تأثيرا واضحا على الجانب الزراعي والمشاريع الصناعية وتوليد الطاقة الكهرومائية. ويؤدي نقصان كل واحد مليار متر مكعب من المياه، إلى تجميد مساحات زراعية تقدر بنحو( 625 ) ألف هكتار، فضلا عن تحويل ثلاثة ملايين دونم في وسط وجنوب العراق إلى أراض جرداء من مساحة الأراضي الزراعية البالغة (22) مليون دونم. وتفاقمت أزمة شح مياه نهري دجلة والفرات بسبب مشكلة التلوث بأغلب المحافظات الجنوبية أيضا، حيث تصل ذروتها في محافظة البصرة، ومناطق الأهوار، التي أصبحت مقرًا للملوثات الصناعية، وذلك نتيجة رداءة المياه التي تصل بعد أن تمر بعدد كبير من المناطق، فضلا عن قلة الإطلاقات المائية التي تصل إلى الأهوار. ويشير باحثون إلى أن نسبة الملوحة في مياه دجلة عالية جدا كلما اتجهنا نزولا لجنوب العراق؛ بسبب دخول مياه الخليج لمسافات طويلة في عمق مياه النهر، ما أثر بوضوح على الثروة السمكية من ناحية تنوعها وازدهارها وصغر حجم الأسماك أيضا. كما تؤثر مياه البزل الإيرانية بشكل مباشر على المياه العراقية عبر رميها في نهر "كارون" الواصل إلى شط العرب.
ويرى مراقبون أن سوء الإدارة العراقية للمياه ساهم بشكل كبير في أزمة الجفاف، ويظهر ذلك جليا في سلوك المحافظات، حيث وصل بها الحال إلى تبادل الدعاوى القضائية. لذا فإن ثمة جهود حثيثية يجب أن تبذل لإنقاذ العراق وشعبه الصابر المجاهد من أزمة مياه حادة.