أصبحت الشهادات الجامعية أداة قوية لتعزيز فرص الحصول على عمل، وهذا ما دفع بعض ضعاف النفوس في الكثير من دول العالم إلى الحصول على هذه الشهادات بأية وسيلة كانت بحق أو بدونه، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة وغريبة في الأوساط الجامعية، تمثلت بقيام بعض الأشخاص الطارئين على الوسط الجامعي، بإنشاء جامعات وهمية لمنح الشهادات الجامعية المختلفة في جميع التخصصات العلمية والأدبية، وبخاصة شهادات الماجستير والدكتوراه، فضلا عن منح شهادات الخبرة بمختلف المراتب العلمية بما في ذلك مرتبة الأستاذية، وكأنها شهادات حقيقية من حيث الشكل والمضمون صادرة من جامعات رصينة، لمن يرغب الحصول عليها بعد تسديد أجور مناسبة تحددها ما يعرف بإدارة الجامعة.
وتروج هذه الجامعات بضاعتها الفاسدة هذه غالبا في بلدان العالم الثالث بعامة والبلدان العربية بخاصة حيث يبدو أنها وجدت فيها سوقا رائجة، حيث يسعى البعض للحصول على الشهادات الجامعية بأية طريقة كانت،بصرف النظر ما إذا كانت هذه الشهادات حقيقية أم زائفة، بشرط أن لا تكون هذه الشهادة مثيرة للشبهات أو مدعاة للشك من حيث الشكل، إذ تعد الشهادة الجامعية بنظر البعض جواز مرور للحصول على الوظائف الحكومية والترقيات الوظيفية بصرف النظر عن مضمونها، ولا تتطلب وظائفهم في العادة اختبارات حقيقية لبيان قدراتهم بما يتوافق والشهادات التي يحملونها. والجامعات الوهمية هذه لا تمتلك أي من مقومات العمل الجامعي سواء أكان ذلك بصيغة العمل الجامعي التقليدي، أو بصيغة ما بات يعرف بالجامعات الافتراضية التي تعتمد أساليب التعليم الالكتروني عبر شبكات المعلومات والاتصالات والتي أبرزها شبكة الإنترنت،فليس هناك أي وجود مادي لها كالقاعات الدراسية والمكتبات والمختبرات والمشاغل وبقية المستلزمات الدراسية التي تتطلبها في العادة العملية التعليمية بحدها الأدنى، إذ جلّ ما تملكه لا يتعدى مكتب بسيط مؤجر في أحد المباني يشغله بعض الأفراد ممن يتولون إدارة الجامعة عبر وسائل الاتصالات الحديثة وشبكة الإنترنت للتواصل مع زبائنها من الطلبة المسجلين لديها. وقد تعمد هذه الجامعات إلى نشر صورة المبنى الذي تشغل مكتبا بسيطا فيه، وما يجاوره من مبان للإيحاء بأنها مباني الجامعة.
توظف هذه الجامعات بعض أعضاء الهيئات التدريسية المتقاعدين بصيغة العقود، بصفة مشرفين على رسائل وأطاريح الطلبة المسجلين لديها، وهم في الغالب ممن يكلفون بمناقشتها وإجازتها ومنح الشهادات المترتبة عليها بعد استلامهم لجميع مستحقاتهم المالية، ومن ثم استكمال إجراءات منحهم الشهادة. ويستطيع الطلبة المسجلين بهذه الجامعات الحصول على شهادات التخرج دون عناء الدوام والدراسة حيث يكفي تسديدهم الأجور الدراسية في مواعيدها المحددة، كما أنه ليست هناك أية ضوابط يتم بموجبها التأكد من قيام الطلبة أنفسهم إنجاز هذه الرسائل والأطاريح على الرغم مما يعتريها من ضعف وقصور وانعدام الرصانة العلمية.
يدعي القائمون على إدارة هذه الجامعات، إتباعهم أساليب التعليم الحديثة بتوظيفهم وسائل الاتصالات الحديثة وتقنية المعلومات المتطورة للتواصل مع الطلبة، إلاّ أن ذلك لا يبرر افتقار الجامعة إلى أبسط مقومات التعليم الجامعي الأساسية من كوادر تدريسية مؤهلة ومستلزمات جامعية مختلفة، فالجامعة بيئة علمية متكاملة يتفاعل فيها المعلم والمتعلم لإنماء المعرفة وإثرائها، ويتعلم فيها الطالب أساليب البحث العلمي تحت إشراف معلميه لبناء قدراته الذاتية في البحث والتطوير وتوظيفها لاحقا لحل المعضلات المختلفة المراد إيجاد حلول مناسبة لها، وهي ليس مجرد مكتب لإصدار الوثائق والشهادات وختمها ومنحها لدافعي أجورها كما تفعل ذلك هذه الجامعات الوهمية.
وقد يتوهم البعض إن هذه الجامعات، إنما تمثل نموذجا للتعليم المفتوح أو التعليم الافتراضي أو التعليم عن بعد الذي تمارسه بعض مؤسسات التعليم العالي في بلدان مختلفة ومنها جامعات رصينة مرموقة، وهو أمر طبيعي ومقبول إذا كانت تمارسه جامعة رصينة تمتلك جميع مستلزمات التعليم العالي المادية والبشرية، وتعتمد هذا النموذج من التعليم جنبا إلى جنب برامجها الدراسية التقليدية المعتمدة في بلدانها.
إما الشهادات المزيفة فهي الشهادات التي يحصل عليها البعض من جامعات قد تكون جامعات معروفة ومشهود لها بالرصانة، ولكن بدون وجه حق أي بطريق الاحتيال وذلك لأسباب عديدة منها: أن من يحصلون على الشهادة لم يبذلوا جهدا حقيقيا بإنجازها ،أي أنها أنجزت من قبل آخرون لقاء أجور معينة دفعت لهم، أو لأية دوافع أخرى، إذ يبدو أن بعض الجامعات لا تشترط الدوام المنتظم، وليس لديها الوسائل الكافية للتأكد من كيفية إنجاز متطلبات الشهادة البحثية، لا بل أن البعض منها لا يكترث كثيرا بهذا الأمر طالما أن ألأجور الدراسية تسدد سنويا بمواعيدها، كما أن الحاصلين على هذه الشهادات لا يهمهم العلم والتعلم، إنما المهم لديهم الحصول على الشهادة، استكمالا للوجاهة الوظيفية أو الاجتماعية لاسيما أن الكثير منهم يتبؤون مواقع وظيفية متقدمة في بلدانهم. ولا ينحصر الأمر بذوي المواقع الوظيفية المتنفذة، بل يمتد ليشمل بعض الطلبة الدارسين في بلدان أخرى أو حتى في بلدانهم،حيث يكلفون أشخاص بصفتهم الفردية أو أفراد يعملون في مكاتب متخصصة بكتابة رسائل وأطاريح طلبة الدراسات العليا ومساعدتهم بإنجاز بحوثهم بصورة جزئية أو كلية، ففي البلدان الأجنبية يقدم هذه الخدمات بعض أبناء الجاليات المهاجرة إلى تلك البلدان للطلبة الوافدين من بلدان هذه الجاليات، بهدف الارتزاق وتوفير لقمة العيش، فلا عجب أن نرى أن بعض ممن حصلوا على هذه الشهادات لا يجيدون التحدث أو الكتابة جيدا بلغة البلدان التي درسوا فيها ومكثوا فيها عدد من السنين، ناهيك عن ضعف مستوياتهم العلمية التي لا تنسجم ورصانة الجامعة التي تخرجوا منها. ولا يقتصر الأمر على الدراسات الأدبية والنظرية كما قد يتصور البعض، بل بات يشمل بعض الدراسات العلمية لاسيما دراسات تقنية المعلومات والاتصالات، وأن كان ذلك ما زال محدودا في الوقت الحاضر مقارنة بالتخصصات الأدبية. ولا يكترث في العادة الكثير من الحاصلين على هذه الشهادات بموضوع معادلتها أو تقييمها من قبل الجهات المختصة، أنما يكفيهم أن تتصدر أسماؤهم كلمة "دكتور" لأنهم ليسوا بحاجة لأكثر من ذلك، حيث أنهم أساسا يشغلون وظائف مرموقة قبل حصولهم على الشهادة، والتقييم في مثل هذه الحالة لا يقدم ولا يؤخر، وإذا ما حصل مثل هذا التقييم وربما يحصل لسبب أو لآخر، فأن زيادة الخير خيرين كما يقول المثل الدارج، وهو أمر محمود بحد ذاته.
تشير بعض الإحصاءات إلى بيع أكثر من (100) ألف شهادة مزيفة سنويًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ثلثها شهادات دراسات عليا، أما المملكة المتحدة، فهناك أكثر من(190) جامعة مزيفة تقدم شهادات مزيفة، وهو الأمر الذي حذرت منه جهات رسمية بريطانية، خاصة أن آليات التزوير أصبحت أكثر تطورًا وتعقيدًا، ما دفع بعض الهيئات الوطنية إلى تكوين قاعدة بيانات تحتوي على معلومات وبيانات الخريجين من جميع المستويات العلمية لحماية حرمة التعليم من التزوير والاحتيال. وفي جامعة موسكو وجد أن نحو (50%) من الأطروحات مسروقة مع نسخ نحو(90%) منها من مصادر مختلفة ، مما أسهم بإنخفاض تقييم الجامعات الروسية في سلم التصنيف الدولي. تقدم هذه الجامعات المزيفة درجات أكاديمية من البكالوريس إلى الدكتوراه وتختلف الأسعار بحسب الرتبة العلمية والتخصص المختار، وغالبًا لا تتعدى الكلفة سوى بضعة آلاف من الدولارات، إلا أن تحقيقًا استقصائيًا قامت به الإذاعة البريطانية "بي بي سي" مع واحدة من أكبر شركات بيع الشهادات الأكاديمية في الباكستان - باعت أكثر من (200) ألف شهادة علمية مزيفة- كشف عمليات ابتزاز يتعرض لها المشترون، إذ أُجبِر أحدهم على دفع أكثر من(500) ألف دولار. وفي الكويت ألقت السلطات القبض على مواطن شاب متخصص في بيع الشهادات المزورة من دول عربية مقابل(12) ألف دولار للشهادة الواحدة تدفع بالتقسيط. وقال المتهم أمام النيابة العامة إنه جمع ثلاثة ملايين دينار كويتي (10ملايين دولار) خلال سنتين فقط، بعد بيعه( 600 )شهادة مزورة لنخب سياسية وأكاديمية في الكويت. ولا يختلف الحال كثيرا في البلدان الأخرى. شهدت تجارة “الشهادات المزورة” رواجًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة في مصر، رغم ارتفاع نسب البطالة بين خريجي الجامعات، على الرغم ما قد تسهم به هذه الشهادات في تدمير نظام التعليم الجامعي، وربما تهدد حياة الناس إذ قد يستغل بعض حملة هذه الشهادات المزيفة بممارسة بعض المهن الطبية والهندسية والمالية والقانونية وغيرها. وبحسب دائرة القضاء في أبو ظبي، فإن تزوير الشهادات التعليمية شكل نحو (40%) من جميع قضايا الاحتيال خلال النصف الأول من عام 2014، وتم إحالة (100) قضية تتعلق بتزوير الوثائق، وتمثل الدرجات والشهادات الأكاديمية نصف هذه القضايا. وفي سلطنة عمان كشفت وزارة التعليم العالي نحو (1250) شهادة مزورة.
وفي الكويت أحالت الحكومة عام 2016 إلى النيابة العامة (270) مزورا لشهادات طبية وهندسية يعمل أغلبهم في القطاع الخاص. وفي العراق برزت ظاهرة الشهادات المزورة في عقد التسعينيات من القرن المنصرم، حيث إضطر خريجو الجامعات الراغبين بالهجرة إلى خارج العراق بسبب ظروف الحصار الذي أطبق على نفوس العراقيين بآثاره المدمرة المتمثلة بالفاقة والحرمان من أبسط مستلزمات الحياة، باللجوء إلى طرق ملتوية للحصول على وثائق تخرجهم من جامعاتهم، والتي بدونها لا يتمكنوا من الحصول على أية فرصة عمل في خارج العراق، حيث لم يكن مسموحا للجامعات العراقية يومذاك منح خريجيها وثائق تخرجهم، الأمر الذي دفع البعض منهم لدفع الرشى للحصول على هذه الوثائق من جامعاتهم، وختمها بأختام وتواقيع مزورة من قبل أشخاص إحترفوا مهنة التزوير لجميع الوثائق والمستمسكات بما فيها جوازات السفر وسندات الملكية وغيرها، لمن يحتاجها مقابل أجور معينة وبدرجة عالية من الحرفية، بحيث يصعب تميزها من الوثائق الأصلية. وكمعالجة لهذه الحالة إرتأت الجهات الرسمية الطلب من جميع مراجعيها، إصدار صحة صدور هذه الوثائق من جهات إصدارها، كمحاولة منها للحد من حالات التزوير والتلاعب بالوثائق والمستمسكات الرسمية التي إمتدت لتزوير مستندات ملكية العقارات وبيعها دون علم مالكيها الحقيقيين، ولكن دون جدوى تذكر للحد من حالات التلاعب والتزوير والعكس ربما كان صحيحا حيث إتسعت دائرة التزوير أكثر.
ويعد السوق المعروف ببغداد بسوق "مريدي" السوق الرئيس لتزوير الوثائق والمستمسكات في العراق حتى يومنا هذا. وفي وقتنا الحاضر ظهر زبائن جدد للحصول على الشهادات المزورة من أصحاب السطوة والنفوذ الساعين للحصول على مواقع حكومية بارزة ممن لم يلتحقوا يوما بأية جامعة. ولا عجب بذلك فالعراق اليوم بؤرة الفساد المستشري في جميع مفاصل الحياة حيث بات يصنف أحد أكثر بلدان العالم فسادا بحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.
ومظاهر فساد مدانة كهذه في الوسط الجامعي ينبغي التوقف عندها والتصدي الحازم لها للحد من آثارها الوخيمة علميا وثقافيا وأخلاقيا، لاسيما أنها آخذة في الزيادة، وأن إصدار الشهادة الجامعية بدون غطاء علمي، كالعملة التي تصدرها بعض الحكومات بدون رصيد لا قيمة لها كونها عملة فاسدة ليس لها أية تغطية مصرفية. ولعل البعض يأخذ عبرة من بعض قادة الدول الأوربية الذين اضطروا للتخلي عن مناصبهم الوزارية ما أن أكتشف بعد سنين طويلة من حصولهم على شهادات الدكتوراه من جامعات رصينة، أنهم لم يلتزموا بالمعايير الجامعية في أطاريحهم لنيل شهادة الدكتوراه، باقتباسهم جزء بسيط من بحوث آخرين دون الإشارة إلى مصدرها. فمن يا ترى سيتصدي لوضع حد لهذه الآفة الخطيرة التي تهدد المجتمع بأسره حاضرا ومستقبلا.