- أبدع الشرقي في استخدام عناصر القصيدة وأجاد بها
- تقلب الشاعر بين الوصف والمأثور ، وبنى هيكل قصيدته مابين اليقظة والتأويل
أعتمد عادل الشرقي في قصيدته (تجليات) على الجانب الوصفي منطلقا من المأثور المتعارف، ومنه بنى مطلع القصيدة على أحد الأمثال المعروفة، وذهب الى توصيف الرؤيا الكامنة في أعماق الشاعر ليعبر عن حالة التهيؤ لحدث ما بدلالة الواقع، وكرس الوصفي في التعبير عن خلجات العشق التي تعتلي نفسه، وما ينتج عنها حين التضاد بفعل الأثر الذي ترك هشاشته على ما وصفه ببيته الذي هو من ورق، لكن بالمقابل تجلد من خاطبها والتعبير عن قوة ما هي عليه عبر عنه بالزجاج، وهو وصف يأخذنا الى مناحي عدة قد لا يخطأ من يفسر إن عنصر القوة الكامن في الزجاج هي خاصية تماسك شكلية لا ديمومة لها حين تشتد الخطوب.
وهو ما يمثل مشاعر المرأة عموما والتي توصف بالقوة لكنها سرعان ما تنهار وتحتاج العطف والمدارة كونها رقيقة برقة الزجاج، الذي شكل عادل الشرقي مطلع قصيدته منها، ليتناسب ومشاعر تلك المخلوقة التي هي أصلا تمثل تعبيرا عن العاطفة المفرطة، فلا تصمد أمام الضغط والأهوال، لكنها تصمد حيال الغرق في الحب لا الماء، الذي وقفت غير آبهة به عندما فاض البحر.
بيتك من زجاج
بيتي من ورق
وعندما فاض عليك البحر
لم تأبهي بالغرق
لكن بيتي ضاق بي
وضاق بي
وعندما لامسني احترق.
وفي الجزء الثاني من القصيدة استخدم الشرقي صيغة الوصف المبهم، ليأخذ القارىء الى تناظر في الرؤية والى مقارنة محسوبة بين المحسوس والملموس، فجاء بالمخفي ربما في إشارة لمشاعر الرجل الشرقي الذي يحسبها بدقة قبل أن يطلقها اعترافا صريحا منه تجاه حتى من يحب، لكن ذكر الواضح وهو ما تكرسه تقلبات الأيام أو الحياة بصورة عامة في صيغة مفاضلة وتشويق للقارئ لرسم صورة مغايرة لما اعتدنا أن نقرأه في قصائد الحب واللوعة، التي يطلقها الشعراء تعبيرا عن مشاعرهم لحبيباتهم دون إخفاء، فعمد الشرقي للتخفي وراء هذه المقارنة ليخرج لنا صورة ما في أعماق الشاعر من حب هو تعبير صادق لما يشعر به كل إنسان، وبالتحديد تجسيد مشاعر القارىء بين متناقضين (الواضح والمخفي).
تبدد الواضح والمخفي
هل هذه كفك أم كفي؟
وهل ترى النصف الذي
ينهض دون أرجل
نصفك أم نصفي؟
وفي مفارقة جميلة يتناولها عادل الشرقي عن التغيرات التي يعيشها الإنسان، والصور التي تتبدل بين الحين والأخر، أو الأدوار المتبادلة التي يلعبها الإنسان في حياته خيراً وشراً، أو حسب المصلحة أو المادية التي تقتضي تبدل الحالة.
يأتي الشرقي على استخدام الاعتراف الصريح أمام المرآة التي تمثل وجه الحقيقة، فيخلط العاشق بالمعشوق، مستخدما التيهه أو الضياع في رسم الصورة الحقيقة أمام المرآة، السارق والمسروق ليذهب في إشارة واضحة الى تقلبات الحالة التي عليها الناس حسب المصلحة المادية وليس العامة،أي طغيان حالة الأنا وتسيدها على العقل بمساحة لم تعد كما كانت، ففقد الإنسان جراءها مصداقيته المعهودة في الحب خاصة، وفي الحياة بصورة عامة.
فلا العاشق عاد كما كان عاشقاً بمواصفات العشق المعروف (قفا نبكي على حبيب ومنزل)، ولا المعشوق يوصف بأنه ذاك المضحي (ليلى العامرية) اختلطت المفاهيم وأنتشر الزيف حتى في الحب، لذلك كانت المرآة دليلاً لكشف هذا الزيف في المشاعر ، وارتبك المعنى كما في تعبير الشاعر.
العاشق كان المعشوق
والسارق كان المسروق
وقفا قدام المرآة
ارتبك المعنى
صار المعشوق هو العاشق
وغدا المسروق على السارق
ائتلف المعنى
غاب العاشق والمعشوق
وخبا في المرآة السارق والمسروق.
ومن التيه في الحب وتقلبات المشاعر، يقيناً كانت أم هواجس عشاق، ينتقل الشاعر الى مقارنة أخرى بنى أركانها بين اليقظة والتأويل، بين الواقع والحلم، بين الصوت والسكون، تبدلات تلك المقارنة هي عملية صحية لمجسات القصيدة تأخذ القارىء الى التحسب والتفسير، وتخرجه من صيغة جمود الأبيات عموماً لتشعل منها رغبة في متابعة القصيدة الى الأخر، وهي ميزة جميلة عند عادل الشرقي أرتقت بأبياته الى مكانة مرموقة جداً من وجهة نظري على أقل تقدير وخلقت نمطاً جديداً، اعتمد على المقارنة الوصفية بين الصور التي كرسها الشرقي لبناء أبياته في سياق قصيدته (تجليات)، والتي أخرجها بشكل جميل مكتمل المعنى لا تنقصه المعاني، بل كانت كلماته معبرة جداً عما أراد إيصاله للقارئ دون عناء أو جهد، وهذه ميزة الشاعر الناجح يمتلكها على غيره من الشعراء.
يقظا كنت فرن الهاتف
قالت أمي:
من يطلبنا في الليل؟
لم تسمع صوتا
أغلقت الهاتف وانهمرت
وطوال الليل تتمتم
والصوت النائم في الهاتف
مرهون للتأويل.
أبدع عادل الشرقي في استخدام عناصر القصيدة وأجاد بها، وضمن قصيدته موسيقى مرهفة عبر توظيف الجملة الموسيقية أو (نغمة الجملة الموسيقية) التي تعودتها أذن القارىء، معتمداً تناسق الشكل والمضمون بتوازن كبير، شكل من خلاله وحدة القصيدة مكرساً ذلك كله في خدمة أبياته التي ابتعد فيها عن التشبيه والاستعارة، كما ادخل الاستفادة من المأثور والموروث، وابتعد عن التقييد والتقليد ما أضفى لقصيدته بعداً أخر أمتاز بجمال الكلمة ورشاقتها.