لم يطل استخدامه للسردي الخيالي وعاد للواقع الذي جسدته الصدفة
في قصته القصيرة (قلب على الجسر) ،وظف مهودر المكان توظيفاً أكثر من مناسب ليبني عليه القصة بناء محكماً متقناً من حيث الحبكة التي داخل فيها التشويق والتعريف، إلا انه جاء على السرد الوصفي في ذكره تفاصيل الدلالة التكوينية للنص حتى أورد تداخل الحال مع الماضي بتكوين نصه القصصي، ليفتح الأفق للتخيل بين صورة الماضي الذي تكلم عنه (أيام صوبتي) والتي خلقت نوعاً مما اسماه الصلة بين عالمين، عالمه هو ككاتب يتناول الوصف لمرحلة من مراحل عشقه وصباه، وعالمها هي وما آلت إليه من تعب، هذا التداخل خلق نوعا من التقارب في الدلالة عبر عنها مهودر بقوله (بين ضفتين)، وهي مقاربة جميلة وتوظيف ناجح للمفردات التي زاوج بها بين مرحلتين من العمر، كما جسد من خلال تلك المقاربة الجانب الوصفي الإدراكي لأبعاد القصة حين جعلها تحمل معنيين، قصد بالمعنى الأخر ضفتي النهر الذي عليه الجسر مكان لقائهما.
ومن الجانب الأخر استخدم مهودر الدلالة الوصفية في العنوان الذي جاء معبراً دالاً من أوجه متعددة، منها أن هذا الجسر هو الذي احتوى لحظات عشقهما الأولى، وهو الذي كان شاهداً على تفاصيل ذلك العشق، وهو أي الجسر الذي حفظ كل تلك الأسرار التي رافقت قصة حبهما، ليدخل الى السردية بتداخل إرهاصات العاشق وما يخالج نفسه من خلجات وأحاسيس تصل حد التخيل أو الحلم، ليرسم صورة الماضي عبر سرده لتخيلات الأمس حين كانت حبيبته تلامس مكان رسوم بعينها على الجسر الذي بات عنواناً أو أيقونة عشقهما، ليخرج من تلك الصورة ويجسد التأمل لما وراء الكائن في قلب الحدث وصولاً الى الغائب من الزمن عبر الوصف متمثلة بذلك بالنظر الى الماء (وتقبل يدها وتتأمل الماء).
بنى مهودر هيكلية قصته على الصدفة، ليتم فقرتها الأولى أو جزءها الأولى بالتأمل، وهو يدفع لتركيز ذهنية القارىء على تفاصيل تلك الصدفة التي دارت حولها حبكة القصة، وهي نفسها التي رسمت مسار سنين غابت عنها ذكريات جميلة، لتعود تلك الصدفة وتحرك ما كان ساكناً في القلوب بفعل الزمن، ولترسمه تأملا على الماء بأثر رسم القلب الذي ضمه الجسر.
(التقيت بها على غير موعد، عابر صدفه في جوار المستشفى.
لمحتها متثاقلة الخطوات،
تحمل (أشعة) بيد وتستند بالأخرى الى الهواء. اقتربت..
كادت أن تتهاوى،
أسرعت لأسندها
تطلعت بي بـعينين ملـؤها جـسر،
الجـسر أيام صـبوتي!
كـان صلة بين عالمي وعالمها، صلة بين ضفتين.
كان مصبوغاً باللون الأحمر..
الآن بت أدرك وأنا أسير قربها بهذا التوافق في الخطوات،
أتأمل الجسر ثانية،
أتلمس مكان القلب،
كما كانت تفعل،
تضع يدها فوق رسم القلب المرسوم على الجسر وتقبل يدها وتتأمل الماء.).
لم يغفل مهودر عنصر المفاجأة منذ سطوره الأولى، وهو أيضا جاء على توظيفها لخدمة النص بصورة مقبولة جداً بل لا نبالغ إن قلنا متقنة (أحاول تذكر ذلك الاسم الذي نسيناه.
أحاول جاهداً..
إنه على طرف لساني إلا انه لا يأتي).
وعبر تداخل النسيان واعتلال الذاكرة وتراكم السنين، دخل مهودر من باب الوصف ليجسد مشهداً مشوقاً جداً تدور أحداثه على ذلك الجسر الذي لم يعرف اسمه يوماً، واكتفى بان يكون مكاناً يضم لقاءاته بحبيته، دون أن يعير لاسمه أي حساب، واكتفى بان ينعته (جسر بلا اسم)، وعبر الوصف أيضا يدخل الكاتب ليشي بتفاصيل عديدة كان الجسر شاهدا عليها منها أن تحررت حبيبته من قيود المكان والزمان عندما توغلا في شوارع غافية، وهي عادة ما تكون بعيدة عن المدينة بعض الشيء، ليصف رحلة السير التي تمر حبيبته بين دروبها حتى تصل الى الجسر مكان اللقاء، ثم عند توغلهما في تلك الشوارع تترك له حرية العبث كما يسميه بجسدها كيفما يشاء، وهو هنا يجسد منهج السرد الوصفي الخيالي حين يكرس تفاصيل أكثر دقة بعيداً عن التحفظ الذي يكون عليه السرد الواقعي أو المتحفظ في الأدب.
لم يطل استخدامه للسردي الخيالي في وصفه للقاء ما بعد الجسر، ليعود الى عالم الواقع الذي جسدته الصدفة التي جمعتهما على الجسر مرة أخرى، ليزاوج بين الذكريات وحقيقة ما هي عليه عند لقاءها الأخير وهي محملة بالهموم والألم معاً، ليعود الى توظيف الصدمة مرة أخرى ويفاجأ القارىء بحدث جلل مؤلم وهو إصابة حبيبته بالسرطان، وهنا أراد مهودر عبر تلك الصدمة توظيف الشعور بالتعاطف مع نصه عبر حدث كبير يتم توظيفه لاستدراج القارىء لمساحة توقف واستعادة الذكريات الغابرة، ومن ثم الظهور بها الى سطح الواقع لترسم افقأ دالا على استمرارية الحياة وعدم توقفها، وهي ميزة تحسب لمهودر، خلقت من عنصر التشويق الذي وظفه بصورة صحيحة لشد انتباه القارىء، وركز على تفاعله مع الحبكة، وتواصله مع قراءة نصه الى أخره بتفاعل واضح، ما يدفع لنجاح النص وإضفاء صبغة الواقعية عليه، رغم عناصر التخيل التي رافقت السرد وخرجت عليه أحياناً، إلا إنها كانت مكملة تامة لإحاطة ما كتب مهودر بصفة النجاح وإيصال الفكرة بصورة مشوقة.
ومن بين كل الذي ذكرناه على قصة قلب على الجسر وما وظفه مهودر من عناصر متداخلة في نصه هذا، إلا أنه عاد ليجسد ختامها بإخفاء ملامح الجسر وما احتواه، أي أنه عاد للواقعية السردية ليختم بها فصول قصته القصيرة، وكأنه آبى إلا أن يسدل الستار على الحال عبر الواقع المعاش، فمحي اثأر قصة العشق وإيقونتها (القلب المرسوم على الجسر) محاها بفعل تغير الزمن وتقادم الأيام، فأتى بنائب فاعل (الصبغ) ليأتي على أولها وأخرها، ويغير معالم المكان، كما تغيرت حبيبته وتقادمت بها الأيام أيضا.
تقويض الماضي واستبداله بالحاضر هي علامة دالة على الواقعية في السرد، وهو ما ذهب إليه الكاتب ليتجاوز موضوع التركيز على الذي كان دون اعتماد الحاضر كصيغة معاشة نخلق منها عوامل النجاح والتقدم، بعيداً عن اجترار الماضي بذكرياته المؤلمة أو حتى الفرحة، مع ضرورة أن يكون الواقع معاشاً بغير النمط الذي كان سائداً فيه أيام كان.
توظيف صيغ الماضي والظهور من خلالها الى الواقع المعاش هي تجربة قديمة تتجدد كثيراً لدى الكتاب، وهي أسلوب ممتع ومفيد وجذاب، لكن يبقى من يتقنه من عدمه، ومن يبدع فيه أو يجعله مكررا لا ملامح له، أو هناك من يستنسخ الصورة التي يعمل بها الآخرون لتكون بعيدة عن الإتقان والإبداع، وهو ما خرج منه مهودر ليقدم لنا قصة ممتعة مشوقة مستوفية لكل عناصر العمل الأدبي المتقن.
ــ عندما كنا عند الجسر!
ــ فعلاً كنا معاً عند الجسر؟
ــ كنا.. معا.. عند.. الجسر؟
لم تستطع من الذهول أن تعي أي شيء، حدث ثم تلاشت صورة الجسر في عينيها.