- داخل الوعي الضمني في النفس الإنسانية ليتخذه طريقاً للمحسوس
- أجاد في تصوير الثورة على الواقع بصمت أبلغ من الكلام
طالب عبد العزيز شاعر عراقي ولد في أبي الخصيب عام 1953 ويعد من أهم الشعراء العراقيين من جيل ثمانينات القرن العشرين إذ برز في كتابة قصيدة النثر ويعد أحد العلامات الفارقة في تجربة الشعر العراقي فيما يخص هذا النوع من الكتابة.
دخل طالب عبد العزيز من فسحة المبني للمجهول مانحاً أفق السرد في قصيدته خيالات عدة، مكشوفة على اللا متناهي من التخيلات، ثم عرج وبسرعة في البيت الثاني ليضع القارئ أمام حقيقة معلومة وثابتة مستخدماً الواقع الملموس في تعبيره.
آي بدء طالب بداية بالمجهول ليتبع بشطره الثاني بما هو مؤكد. ذلك التحول هو ما يولد عملية الإبداع التي يكتب بها طالب طيلة مسيرته التي بدءها منذ القرن الماضي، ويحسب فيها على جيل الثمانينات الشعري. عالج طالب الظلمة التي خلفها ببيته الثاني في القصيدة بتداخلات الوعي الضمني في النفس الإنسانية، ليتخذ طريقاً يهتدي به عبر ما قلنا عنه أنه محسوس، هو يبرهن أن الأشياء قد لا تنتهي فاعليتها حتى في أحلك الظروف، (والظلام هنا) هو تعبير عن سوداوية الحياة قبل أن يكون انعدام للضوء، اعتاد أن يعمل بتداخل كل المحسوسات في عملية السرد التي يشتغل عليها حتى ينشأ أواصر فيما بنها جميعا ليظهر بعد ذلك من عتمة الأشياء وجمودها بنص متحرك لا تقف كلماته عند حد تصور معين، وهذا ما يجعل شعر طالب عبد العزيز متقدماً على غيره من أبناء جيله. الناظر لقصيدته التي نقرأها هنا (احدهم كانت يده مضيئة) يستشعر مساحة الحرية التي يدور فيها طالب فيخلق الأثر الجمعي الذي يحرك ذلك الشعور المرهف الإحساس بعفوية الاستشعار بمعنى الحرية ككل، فيما هو يؤشر أن الظلام قد غطى كل شيء بفقدان القمر نوره، الذي لم يعد فيه نور يكفي، وكأن الانطباع الذي أراد طالب إيصاله لنا هو أن هذه الحرية التي مثلها بالنور لها حدود معينة، ربما تستنفذ ساعة ألا نحسن استخدامها، أو اقتناصها ممن يحجبونها عنا.
غطَّته ُالسَّحابةُ الكبيرةُ،
لم يعدْ في القمرِ نورٌ يكفي
فاتخذتُ يدي هادياً، أتلمسُ الطريقَ
إلى البيتِ،
قدمي أيضاً،كانت تُعينني على سَمْتِ الأرضِ
وأمْتها، لكني كثيراً ما
أخطأتُ موضع َ الحجارةِ، تلك َ
التي كنتُ أتخطاها في النَّـهار.
وحين يكمل عملية السرد التي بدأها عبر عناصر مكتملة سواء في المعنى أو الشكل، يطرح هنا في الجزء الثاني من القصيدة، أو يدخل الوصف كعملية مكملة للسرد يصف من خلالها دروب ما التمس من طريق ليصل الى مبتغاه عبر كل تلك المعاناة التي رسمها في ثنايا قصيدته، متجاوزاً كل العقبات التي كانت في الطريق الى الباب الذي رام الوصول إليه.
هي ثورة على الواقع، أجاد في تصويرها طالب عبد العزيز بصمت أبلغ من الكلام وبتوازن كبير أختط طريقه نحو رسم الصورة كاملة لا ينقصها شيء، استخدم طالب كل عناصر العمل الأدبي مكتملة من حيث المكان والزمان والحبكة والسرد والتأثير، وعمد في كثير من عمليته الروائية في القصيدة التي شملت كل شيء، عمد لاستخدام المبني للمجهول للدلالة على الحدث، وأجاد في استخدام وصف المكان للدلالة نفسها، ولتبيان العلاقة بين النص والقارئ، كما هي للربط بين الحدث والمكان انطلاقا من البيئة التي عاشها الشاعر وتربى فيها، والتي تركت أثرها الواضح على تكوينه النفسي والسردي. لذلك فلا غرابة أن احتوت شواهده التي استخدمها في قصيدته على ( القصب، والطين، سعف، شجر، ظلال جداول) وهذه كلها تشكيلة مما يتكون منه الريف العراقي الجميل خاصة في قضاء (أبي الخصيب)، جنة النخيل التي رسمت مابين ثنايا (شط العرب).
أي أنَّ العناصر لعبت على الدوام دورًا في تفكير وكتابات طالب عبد العزيز، كما كان للمكان تأثيره الواضح على شعره، لكنه لم يكن محلياً أبدا آي يتناول بيئة بعينها أو موضوع محدد بقدر ما كان متنوع يتنقل بين المكان والزمان ليجسد صورة ما يريد وفق الرؤية التي تمليها عليه مسارات السرد وشكل القصيدة.
يلمس القارئ في القصيدة وعي الشاعر لما يحيط به من تقلبات ذهنية، تمثلت بتبدل الحالة الشعرية التي يكتب بها حروفه من الوصف الى تجليات الواقع المعاش، مكرساً التصور بالظلام ومتخذاً منه إشارات عدة يرسلها باتجاهات مختلفة، ويترك للقارئ حرية تفسيرها، وهي حالة راقية في القصيدة التي أجاد طالب باستخدام الرمزية فيها.
بيد أنَّ التركيز المنصب بوضوحٍ على العناصر التي استخدمها طالب عبد العزيز نفسها والتي تمثلت ب: (السحاب، القمر، أنهار، الليل، ظلمة).
كرس عبرها ظواهر ملموسةٍ يستطيع المرء إدراكها بالحواس مثل:
(رائحة العفن، السياج الطين، ترعاً، الظلال، الباب) هي أشياء محسوسة لكنها دالة وبعمق على الحركة المكانية التي أراد أن يضمنها الشاعر قصيدته كي لا تركن الى الجمود الحسي، أو حتى الاعتياد عند القارىء من ناحية تكرار المعنى، ذلك أن التكرار يولد الجمود والنفور.
أغصانُ غَرَبٍ وخيالُ من سدّرةٍ هنا
سعفٌ وزوائدُ قصبٍ
كانت تجمعها يدي فأمرُّ ،غيرَ واثق ،
مستعيناً بالسِّياجِ الطينِ ،صِرتُ لِصقهُ
حتى أني شممتُ رائحةَ العَفن ِ
في التُّرابِ على قميصيَ الليلي .
قناطرَ من ظلالٍ تخطيتُها ،قافزاً
خِلتها تِرعاً ،سواقيَ تُروى في النَّهار
لمْ يُفزعْني طائرٌ الظلمةِ التي كانت ترين
فتجاوزتُ الشجرَ والجداولَ والظلال َ
إلى البابِ،
خيالات عدة زجها طالب في قصيدته كانت كافية لتشعل ذهنية القارئ نحو استشعار المعاني الضمنية في القصيدة، التي كرسها للتعبير عن المعنى السردي في الوصف الذي تناول فيه أبياته تلك ، والتي جعلها شديدة الوضوح في جزءها الثالث وأنهى بها القصيدة، إلا انه عاد لما بدء به من المبهم (المجهول) في أول أبياته، ليقول (ظل النور هامداً هناك.. في الأعالي).
وهنا يعود ليترك القارىء مع المبني للمجهول بثنائية جميلة جداً بدء بها، أنهى حروف قصيدته بعنصر المفاجأة التي غطت معظم أبياته ن حين قال (قبل أن يصطحبني أحدهم)، من هو هذا (احدهم) لم يفصح طالب ن لكنه بالمقابل أبان عن الوجهة التي أصطحب إليها والتي مثلها ب (السرير).
كانتِ الأبقارُ سوداءَ بما يكفي
في الظلام، كذلكَ الإوز ُ
وزوجا الأرانبِ البيضاوانِ .
ظلَّ النور ُهامدا ًهناكَ.. في الأعالي
لا أعلمُ كمْ سحابةٍ غطّتِ القمرَ الليلةَ تلك
قبل أنْ يصْحَبني أحدُهم،
كانَت يدهُ مضيئة ً بما يكفي
لأتبيَّنَ طريقيَ إلى السرير .
تتمتع قصيدة "أحدهم كانت يده مضيئة" برزانة كبيرة، حيث يشعر القارئ بأهمية كل ما رآه طالب عبد العزيز وما خبره في حياته، وعلى الرغم من أن موضوع القصيدة متكرر، لكن طالب دفع بأسلوبه الشيق ونظرته الفنية للأشياء لتكون قصيدته متجددة هادفة، لا يشعر معها القارىء بالتكرار، وهذه الميزة بحد ذاتها تسجل كإبداع لطالب عبد العزيز. تأثر طالب عبد العزيز في أسلوبه الشعري بالسياب وعبد الوهاب البياتي، إلا أني أراه اقرب للبياتي منه الى السياب ن على الرغم من أن طالب وبدر السياب كلاهما من منبع ومصب واحد، وتجمعهما قواسم مشتركة عدة، يكفي أن نذكر أن كلاهما من أبي الخصيب، نشئ الاثنان في بيئة مقاربة وربما عاشا حياة تتقارب في كثر من تفاصيلها، إلا أن اثر البياتي الشعري واضحا في أبيات طالب ، وربما يرى القارىء عكس ما أرى، لكنها رغم كل شيء تبقى رؤية وتفسير شخصي وانطباع ذاتي يعود للقارئ ناقداً كان أم قارئ عادي.
أبدع طالب عبد العزيز وأجاد في رسم صورته الشعرية بهذه القصيدة والتي تنقل فيها مابين المحسوس والملموس، واللامتناهي، وأجاد بتوظيف كل العناصر المكونة للحبكة الدرامية في السرد، تنقل بين المكان والزمان بحرفية معهودة عند طالب الذي يجيد تلك اللعبة المتقنة عبر انتقاءه لكلماته وصوره الشعرية بدقة، ليرضي القارىء، كما يرضي الذوق العام. طالب عبد العزيز له أربع مجاميع شعرية وكتاب واحد في النثر هما على التوالي: - تاريخ الأسى، عام 1994 عن دار الشؤون الثقافية بغداد، - ما لا يفضحه السراج، عام 1999 عن دار ألواح في إسبانيا، - تاسوعاء عن دار عبادي للدراسات والنشر في صنعاء - الخصيبي عن دار الشؤون الثقافية بغداد 2012 - قبل خراب البصرة دار آراس اربيل 2012.