في تلك السنوات المشتعلة ..وفي زمن الموت العراقي اليومي.. وأعني سنوات الحرب العراقية ~ الايرانية المدمرة.
عرفت خضير ميري.. حيث كنا طالبين في اكاديمية الفنون الجميلة.. وندرس المسرح ... وكنت دائما ارى ميري اما ان يكون جالسا ويحتضن كتابا ويقرأ فيه بنهم واضح.. او يحمل حزمة من الكتب وخاصة الفلسفية والمعرفية منها التي يتهيئ لقراءتها بذات النهم والشغف. وخلال تلك السنوات أخذت اوطد علاقتي بميري اكثر فأكثر... وكنت اتحاور معه في الشعر والمسرح كونهما هاجسي وهوسي المستديم: وكذلك هما هاجس ميري ميري وشاغله هو الآخر. وكنت في احيان كثيرة اصغي الى ميري وهو يحدثني عن افكاره ورؤاه الفلسفية والمعرفية التي كان يطرحها بطريقة عميقة ورصينة ولاتخلو من الدهشة والسحر... وكان ميري يمتلك اراءه ورؤاه الخاصة والمختلفة والمغايرة لكثير من الطروحات الفلسفية التي عرفناها .. وكان ميري يسعى ليكون صاحب مشروع فلسفي خاص به.
وبعد سنوات قليلة بدأ ميري بنشر مقالاته في الصحف والمجلات العراقية والعربية... وأصبح اسمه يتردد في الوسط الثقافي العراقي.. والحامعي بشكل لافت؛ وذلك لعمق وجدلية افكاره التي يبثها في مقالاته التي تنطوي على وعي.. هو مزيج مما هو شقي.. ومشاكس في ذات الوقت.... وقد قام ميري بجمع مقالاته تلك وأصدرها في كتابه المعنون (الاشكالوية والسؤال الفلسفي) الذي احدث ضجة لافتة عند صدوره .... ثم استمر ميري بمشروعه الفلسفي بإصرار وعناد غير طبيعين .. وأستمر بكتابة مقالاته الفلسفية ومناقشاته في الوسطين الثقافي والأكاديمي ...رغم النظرة الاستعلائية التي كان ينظرها له بعض الدكاترة والاساتذة والكتاب المهتمين بالفلسفة.. ويمكنني الاشارة الى كتابه المهم (قراءة في ميشيل فوكو) الذي اثار هو الآخر جدلا ونقاشات كثيرة . ثم وبعد توطد علاقات ميري بالكثير من الادباء والكتاب في وسطنا الثقافي أخذ يكتب قراءات نقدية في اعمال ومجاميع ونصوص شعرية.. ويمكنني القول ان لميري رؤيته النقدية المتفردة التي تغور عميقا في طبقات النص الشعري .. وتستكشف جوهره من خلال تأويلات ورؤيه نقدية استكشافية.. وخاصة في نصوص اصدقائه وزملائه من شعراء جيل الثمانينيات ، وأنا واحد منهم؛ حيث ان ميري كان قد كتب عدة مقالات وقراءات عن اعمالي الشعرية ( فضاءات طفل الكلام.. وموسيقى الكائن.. وأرميك كبشرة وأهطل عليك ) ولأننني اعرف ميري كما اعرف نفسي فلا يمكن ان انسى مرحلة دخول خضير ميري الى (الشماعية ومن ثم الى مستشفى ابن رشد ) مرة كمجنون ومرة كمدمن على الخمر ومرة كمريض نفسيا ... ومرة من باب التقية للهرب والخلاص من عسكرية الحرب الفنطازية الطويلة ... ويمكنني الاشارة الى ان ميري كان قد كتب اكثر من كتاب سيروي عن تلك الحياة العجيبة والغريبة التي عاشها في تلك المصحات والمشافي والمعسكرات الرهيبة ..منها كتبه:
ايام الجنون والعسل .
وجن وجنون وجريمة ..
والذبابة على الوردة .. وغيرها الكثير .
اما عن المرحلة المصرية التي عاشها ميري .. فهي مرحلة فهي مرحلة على شئ كبير من الاهمية.. حيث ان ميري قد كان مثل ينبوع متفجر بموهبته الفذة ورؤاه المتوهجة.. وقدرته على الاقناع والانجاز في مختلف الاجناس والانماط الادبية كالرواية والقصة القصيرة والشعر الخالص. ولا ابلغ اذا قلت انا صديقه وصاحبه الذي عايشته سنوات في مصر؛ ان ميري قد كان مثار اعجاب ومحبة ودهشة الكثير من ادباء وفناني مصر وذلك لانه كان منتجا لاعمال ابداعية مهمة وخاصة في الرواية والقصة القصيرة وحتى الشعر.. ناهيك عن حراكه الثقافي ومشاركته الفاعلة في معظم فعاليات ونشاطات المؤسسات والاندية الثقافية المصرية.
ان ميري نموذج حقيقي للمثقف والمبدع الشامل الذي لم يترك جنسا او نمطا او حقلا فلسفيا ومعرفيا وأدبيا الا وكتب فيه بوعي وعمق وابداع وجمال * لقد كان رحيل خضير صادما وغامضا ومفاجئا لي وللوسطين الثقافيين العراقي والعربي، وذلك لأنه كان في أوج شبابه .. وفي قمة عطائه الابداعي.
* خضير ميري : كان وسيبقى حاضرا وخالدا في ذاكرة الابداع. وفي ذاكراتنا وقلوبنا نحن اصدقاءه الحقيقيين .