- بلا شك ان المشهد الشعري الكردي مشهد له خصوصيته وفرادته في المشاهد الشعرية الكونية وهو (مشهد شعري خصب ومتميز) وواسع ساهمت بصنعه ثلاثة اجيال خلال مايقارب القرن وهو القرن العشرون الذي ازدهر فيه الشعر الكردي بعد حالة من الشتات والاغتراب والتهميش والاستلاب نتيجة لاسباب سياسية وعرقية ايضاً.. وللمشهد الشعري الكردي مراحله وخصائصه وجمالياته واجياله؛ وقد سعى شعراء الحداثة الاولى الى تطوير انجازات شعراء النهضة الذين لم يتخلوا عن الأساليب التقليدية والاشكال القديمة.
ويمكنني الحديث عن الأجيال الثلاثة التي تعاقبت وقامت بتأسيس تيارات الشعر الكردي لا سيما بعدما التحمت كلها، بعضها مع البعض الآخر، وبدت كأنها تكمّل نفسها.
مرحلة “الحداثة الأولى” أو مرحلة الروّاد استطاعت أن تشكل بنية الشعر الكردي وخلالها تمّ التمرّد على الإرث التقليدي بأغراضه المستهلكة ولغته الجاهزة وبلاغته الثقيلة.
وفي طليعة هذه المرحلة أو هذا الجيل يحل الشاعر عبدالله كوران الذي تمرّد مع زملائه على القصيدة التقليدية وأنقذها من ركودها وجمودها لغوياً وجمالياً. وقد طرأ مع هذا الجيل تغيير على البناء والصورة واللغة ولم يبق الشعر وقفاً على موضوعة أو غرض بل أصبح تجربة حية.
وركّز شعراء هذا الجيل الأول على روح النضال ضد (الجبهات الخارجية ) كافة وضد الاستعمار والظلم، وضد الطبقية والواقع المزري والهيمنة الذكورية في الداخل.
أما شعراء الستينات فقاموا على تخوم الثورة الكردية؛ وافترق هؤلاء الشعراء بعضهم عن بعض أو انقسموا الى فئتين: فئة انخرطت في صفوف الثورة والتزمت النضال السياسي، وفئة انكفأت على نفسها وزهدت في النشر.
ولعل الظروف التي حدثت إبان الثورة انعكست سلباً على الشعر الكردي في الستينات حتى بدت هذه الفترة من الفترات المظلمة في الشعر الكردي على خلاف مرحلة الستينات في الشعر العربي والشعريات الاخرى.
إلا أن مرحلة السبعينات لم تلبث أن حملت معالم الحداثة الثانية في الشعر الكردي وظهرت عبرها أصوات بارزة كانت على بيّنة من الثورات الحداثية في العالم العربي والغرب. إنها أصوات سعت الى التحرر من سطوة عبدالله كوران وزملائه ومن الأثر الذي تركوه فيها.
هذه السطوة كانت قد شملت مثلاً شيركو بيكس ولطيف هملت وعبدالله باشيو في بداياتهم، لكنهم ما فتئوا أن تخلّصوا منها متجهين الى ثورتهم الشعرية الخاصة. وكان عدد من شعراء جيل السبعينات قد اصدروا عدة بيانات أعلنوا فيها رؤاهم الشعرية وطروحاتهم التنظيرية، جامعين بين النظرية والكتابة نفسها.
وبدا نتاج هذا الجيل بمعظمه حافلاً بالأساليب الجديدة و(الانحرافات) أو (الانزياحات). وقد أفاد هؤلاء الشعراء من الأسطورة والقناع والحلم والتقنيات الحديثة في السينما والمسرح وتحرروا من العبء الثوري والأيديولوجي وانصرفوا الى همومهم الخاصة، الإنسانية والذاتية، الحياتية والغيبية .
وكان لظهور جيل شعراء الثمانينات حضوره الخاص وشعريته اللافتة. حيث انهم تميزوا بهدوئهم مبتعدين عن الصخب والعنف والصراخ، ملتفتين في آن واحد الى ذواتهم والى ما هو خارج هذه الذوات.
أما الجيل الجديد الذي انطلق في التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة ومابعدها فقد حمل هموماً جديدة تختلف عن هموم الأجيال السابقة. فالتحولات التي شهدتها المنطقة أحدثت شرخاً في الجدار وتركت آثارها في الحياة والثقافة الكرديتين.
وقد استثمر شعراء هذا الجيل المخيلة وركزوا على الظواهر اليومية البسيطة وعلى التفاصيل والأشياء والبصريات والمشهديات وانفتحوا على الأجناس الأخرى وخاضوا كل الأنواع الشعرية من قصيدة النثر الى النص المفتوح ونصوص الومضة الشعرية.
اعتقد أنني ومن خلال هذا الاستقراء للشعر الكردي ومشهده الشاسع اعتبر نفسي من المتابعين بشكل لابأس به للمشهد الشعري الكردي الذي له حضوره في ذاتي الشعرية.