عرف الحزب بأنــه مجموعة من الناس تعتقد بهدف وتؤمن بفكر ويضمها تنظيم سياسي معين، وشهدت الساحة العراقية في العهد الملكي تشكيلات لأحزاب سياسية منها العلنية، ومنها السرية. وعرف العراق تشكيل الجمعيات والأحزاب بعد الحرب العالمية الأولى، وتطور الفكر السياسي في تلك الفترة مما ادى الى ان ينعكس على تطور دعائم الحياة الحزبية وترسيخها في العراق، ولم تكن البسطاء من الناس تستطيع ان تنتمي الى الأحزاب السياسية لأنشغالها بكدح عيشها وأنصرافها لأمورها الحياتية، أذ لم تكن في الحياة السياسية غير النخبة المقتدرة مالياً والنافذة أجتماعياً، فضمت تلك الأحزاب على أختلافها منذ قيام الحكم الملكي وحتى فترة منتصف الثلاثينات شخصيات رفيعة المستوى وتتميز بأختلافها الطبقي مع الطبقات الفقيرة في المجتمع العراقي، ومع ان هذه الأحزاب كانت تضم النخبة الا ان من بينها من كان يطالب بالأستقلال وأنهاء الأنتداب. غير ان متطلبات مرحلة اجتماعية وسياسية واقتصادية بعد منتصف الثلاثينات في العراق اوجبت تشكيل احزاب سياسية تهدف الى خلق تنظيم سياسي من طراز جديد يدعو الى اصلاح المجتمع وفق نظريات وأهداف معينة، والنضال من اجل هذه الاهداف بقصد تحقيق مجتمع يضمن الاطمئنان والرفاه والتقدم للسواد الاعظم من المجتمع، وليس على اساس الانقلاب على قيم المجتمع فقط.
ولعل اهم الأحزاب التي نشأت بعد منتصف الثلاثينات في العراق، الحزب الشيوعي العراقي وحزب الأستقلال وجماعة الأهالي (الحزب الوطني الديمقراطي)، بالأضافة الى جمعيات تهدف الأصلاح الأجتماعي، وجوبهت بعض تلك الأحزاب بملاحقة السلطات التي أعتبرتها مناوئة لنظامها السياسي وأعتبرتها من الأحزاب المعارضة والمحظورة وخاصة تلك التي تحمل سمات اليسار وتؤمن بنظريات اقتصادية مناوئة للفكر الغربي واليميني. غير أن اهم مايميز تلك الفترة عدم بروز ظاهرة الأستعلاء والاصطفاف مع الأحزاب من قبل منتسبيها على حساب الناس، فلم تكن هناك أية فروق بين الأنسان العراقي حزبيا أو مستقلاً، ولم يكن أحد من الناس يشعر بأن منزلته الدستورية والقانونية أقل من غيره من الحزبيين، ولم تكن الحزبية تميز أو تمنح المواطن مكانة تختلف عن مكانته الحقيقية وقدراته وكفائته، بغض النظر عن مكانته الطبقية أو الأجتماعية، مع أن هذه المكانة كانت توفر له مميزات تمنحها السلطة ليس على أساس الحزبية والأنتماء الى حزب معين، وانما على أساس التباين الطبقي والأجتماعي الملموس في الزمن الملكي.
ثم ولدت فترة الخمسينات أحزاباً قومية تعايشت وأنسجمت مع بقية الأحزاب من اجل تغيير الواقع السياسي في العراق، حتى حدثت ثورة 14 تموز 1958 حيث قامت الجمهورية وأنتهت الملكية في العراق. بعد قيام الجمهورية برز التطاحن السياسي بين الأحزاب السياسية واسعاً وكبيرا، وخسر العراق العديد من أبناءه خلال تلك المطحنة، والصراع الذي حدث بين قوى اليسار مجتمعة وبين قوى اليمين التي تزعمها حزب البعث العربي الأشتراكي كلف العراق تراجعا مريعاً واسهم في تأجيل تطوره وتقدمه، وظهرت الحزبية بأبشع صورها أذ صار الالتزام الفكري تهمة يمكن أن تقضي على رأس صاحبها أو تؤدي به الى السجن أو الفصـل من العمل في أضعف الأحتمالات، وصار الناس تتم ملاحقتها وفق أفكارها السياسية والتزاماتها الحزبية، وبرزت في العراق ظاهرة المدن الحزبية والمحلات الحزبية والعشائر الحزبية والعوائل الحزبية، وصار الأنتماء الى الحزب قبل الانتماء الى العشيرة أو المدينة أو الدين أو الوطن. ومن الطبيعي أن تنتصر قوى اليمين ليس في العراق بل في مكان من هذا الوطن العربي، وهكذا تضرر المواطن الحزبي في العراق قبل سقوط نظام عبد الكريم قاسم بتأثير وبفعل قوى اليمين وزاد الضرر بعد سقوط النظام، وتضرر المواطن العراقي المستقل ضرراً كبيراً، حيث لم يكن يسمح له بالأستقلالية فلا وسطية في عملية الطحن السياسي، مع أن الخلاص الوحيد للبقاء على قيد الحياة أو للاحتفاظ بالوظيفة أو العمل، يرتبط في عدم التورط في الارتباط بالعمل الحزبي والسياسي في العراق.
وحين حدث انقلاب 8 شباط 1963، نجح الحزبيين من اليمين العراقي في أبادة أكبر عدد ممكن من قوى اليسار بقصد انهاء الأحزاب اليسارية المعارضة في تلك الظروف، او اسكات صوتها على أقل تقدير، حيث أقيمت المسالخ والمقرات الأمنية ومقرات التعذيب البشري بشكل بشع ويدعو للقرف، الا ان التعاون بين قوى اليمين تخلله أختلاف في وجهات النظر، ادى ذلك الأختلاف الى التصادم فيما بينها، مما أوقف عملية الأنهاء والملاحقة المستمرة لقوى اليسار، حيث التفت اليمين الحاكم للقضاء على الأحزاب القومية المناوئة للبعث حليفة الأمس، وحين سقط البعث على ايادي رفاقه من اليمين لم يسلم من الضرر ولكن بشكل خفيف لايؤثر في وجوده.
وحين جاء البعث مرة اخرى الى السلطة في العراق لم يفسح المجال للمواطن العراقي أن يكون مستقلاً أو أن لايرتبط بأي حزب كان، فتم تطبيق السياسة الستالينية (من ليس معنا فهو ضدنا)، كما برزت شعارات ويافطات تطغي على كل مامن شأنه أن يسمح للمواطن العراقي أن يكون مستقلاً، فتم طرح شعار (كل العراقيين بعثيين وأن لم ينتموا). ومورست عمليات تسقيط بحق جميع المواطنين الذين سبق وأن كانوا يرتبطون بأحزاب سياسية وتحللوا من التزامهم منها، او فصلوا منها، او كانوا لم يزلوا يرتبطون بها، وكان الموت مصير من لم يتقبل السقوط والأرتباط القسري بحزب البعث، في حين تمت ملاحقة الباقين بشتى الوسائل والسبل وأخطرها. وسادت الحزبية في العراق حيث صارت الوسيلة الوحيدة الممكنة للنفاذ في الحياة العراقية، مع ان الطاغية صدام أفرغ حزب البعث من محتواه ووظفه لصالحه، وأطبقت تعليمات الدكتاتورية الحزبية على مفاصل حياة العراقيين وتدخلت في أدقها وأصغرها، وولدت تلك الحالة نتائج وخيمة ومأساوية على العراق لم تنته الا بسقوط الطاغية وحزبه الهزيل في العام 2003 . وحين برزت الأحزاب السياسية العراقية التي كانت تناضل وتعارض سلطة الطاغية على الساحة العراقية سادت حالة سلبية في تكريس المراكز والوظائف والمهام الأمنية على الحزبيين من هذه الأحزاب فقط، وشعر العراقي غير الحزبي بغبن شديد، إذ تم تهميشه والأستخفاف به، وماعاد له صوت ومكانة في العراق الجديد. انطلقت الأصوات التي تنادي بسوء عاقبة الحالة المذكورة، وما لها من نتائج سلبية وكارثية على العراق، الا ان الاستمرار بمنهجها واستمراء لعبة تكريس الحزبية في التعامل العراقي.
من المحزن ان نجد الأصوات العراقية المستقلة وهي تنادي تريد فرصتها العراقية، فالعراق ليس فقط للأحزاب مع التقدير والاعتزاز بنضالها وتضحياتها، ومع تقدير حقها في الحياة السياسية العراقية، ولكن العراق يتشكل من جميع العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وأفكارهم، بل وقومياتهم وأديانهم، ولن تستقيم الأمور في العراق اذا بقي التعامل وفق مبدأ تهميش المستقلين وتقريب الحزبيين، المتابع لوجع العراقيين يجد أن صوتاً مختنقاً يطالب الحزبيين مهما كانت انتماءاتهم وجوب أن تكون لهم فرصة وأن لاتكون الاولوية للحزبي على حساب الكفاءة والدرجة العلمية، وأن لايتم تحديد المراكز والوظائف بشراك الحزبية الضيقة، ثمة عراقيين مخلصين ويشكلون طاقات وكفاءات عراقية مستقلة لايقبلون الأنتماء الى حزب سياسي وهذا لاينقص من عراقيتهم وليس لهم فرصة وسيخسرهم العراق. من المحزن ان تسمع من يطالب المواطن العراقي بتأييد من حزب من الأحزاب، ومن المحزن أن يتم تفضيل الحزبي على المستقل بغض النظر عن الكفاءة والقابلية والتحصيل العلمي.
ومن المحزن أن تنتشر ظاهرة الأنتساب للأحزاب لضمان الأصوات للأنتخابات القادمة لغرض جمع الكم، وهذه الظاهرة التي قام بها بعث صدام تكررها بعض الأحزاب في العراق الجديد.
ونحن على اعتاب زمن ديمقراطي وقانوني جديد نتفق على أن تكون فيه للأنسان قيمة ويتم تطبيق حقوق الأنسان، وحتى لاتزداد ردة الفعل من الاحزاب والحزبية، ينبغي أن يتم الالتفات الى تطبيق مبدأ المساواة التي يسعى اليها الجميع دون أن تكون هناك أية ميزة لأي حزبي من أي حزب، فالأنتماء الى حزب ما لايعطي أفضلية في المواطنة بل يشكل عطاء أنساني من اجل التطوير والنهوض بالبلد والحزبي من يساهم اكثر من غيره بوعيه وتضحياته من اجل بناء العراق الجديد، والعراقيين متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وأجناسهم ولغاتهم وافكارهم السياسية وهذا ما تؤكده النصوص الدستورية ويرسمها الدستور الجديد مما ينبغي ان يتم تطبيقها بشكل واضح وصريح في حياتنا العراقية الجديدة.