استقلالية القضاء مبدأ دستوري يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ فصل السلطات الذي يقوم على مبدأ التوازن والانسجام وعلى مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، هذه الاستقلالية التي نص عليها الدستور العراقي تشكل حصانة وحماية للسلطة القضائية، وتجسيدا لمبدأ فصل كل سلطة عن الأخرى، حيث تكون السلطة القضائية محايدة تختص بالعمل القضائي والفصل في المنازعات والرقابة الدستورية وتفسير نصوص الدستور، وحيث ان لا سلطان على القضاء لغير القانون، فأن أي شائبة في فرض سلطة تزاحم او تشارك القضاء في مهمته تكون خرقا وانتهاكا لمبدأ الاستقلالية، والغاءا لمبدأ فصل السلطات الذي اكده الدستور العراقي في المادة (47) حين تطرق الى مكونات السلطة الاتحادية المتكونة من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمارس هذه السلطات اختصاصاتها ومهماتها على اساس مبدأ الفصل بين السلطات، ولذا فان النص على عدم الجمع بين الوظيفة القضائية والوظيفتين التشريعية والتنفيذية، و منع الانتماء الى الاحزاب والمنظمات السياسية او الانغمار في النشاط السياسي لا يشكل منعا اعتباطيا انما يشكل حصانة وقاعدة تستند عليها الاستقلالية المنشودة في العمل القضائي (98 من الدستور )، حيث أن من مميزات العمل القضائي الحياد والتجرد من الانحياز ، بالإضافة الى توفر المعرفة والخبرة القانونية.
وعاد الدستور ليؤكد مرة اخرى ضمن الفصل الخاص بالسلطة القضائية (المادة 87) بان هذه السلطة مستقلة وتتولاها المحاكم حصرا على اختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر احكامها وفقا للقانون، وان القضاة بموجب المادة (88) من الدستور مستقلون في عملهم القضائي لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولايجوز (لأية سلطة) التدخل في القضاء او في شؤون العدالة، ومن مفهوم النص المخالف يفهم بان اي شكل من اشكال الهيمنة والسطوة على القرار القضائي يعد باطلا ومخالفا لأحكام الدستور ، بالإضافة الى هناك منع وحظر لأية جهة من التدخل في الشأن القضائي أو في شؤون العدالة، وهذه الضوابط الدستورية كفيلة بمنع وابطال كل تدخل من شأنه التدخل في العمل القضائي او التأثير عليه بأي شكل من الأشكال.
وفقا لما تقدم نلمس من النصوص بأن كل نص يخالف هذا المبدأ باطل لا قيمة قانونية له، وايضا يعد باطلا كل قانون يخالف النص الدستوري، حيث نصت المادة (13 / اولا وثانيا) بان هذا الدستور هو القانون الاسمى والاعلى في العراق ويكون ملزما في انحاء العراق وبدون استثناء أي أن هذا الدستور يشمل المركز والاقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، وانه لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، ويعد باطلا كل نص يرد في دساتير الاقاليم او اي نص قانوني أخر سواء صدر من الحكومة الاتحادية او الاقاليم او المحافظات يتعارض مع الدستور.
القواعد الدستورية تتميز بالسمو والعلو على بقية القواعد القانونية، حيث تكون القوانين خاضعة للنصوص الدستورية، ولايمكن ان تكون الا منسجمة مع ما ورد فيها من نصوص، ثم تليها الأنظمة والأوامر الصادرة من السلطة التنفيذية ومن بعدها تأتي التعليمات، غير انها جميعها يمنع تحصينها بأي شكل من الأشكال، حتى يمكن ان تخضع للتدقيق والتمحيص من جهات أخرى تحقيقا للعدالة وانسجاما مع نصوص المرافعات والأصول. وبالتالي فأن كل نص قانوني أو تعليمات صادرة من أية جهة مهما علت ليس فقط خاضعة لطرق الطعن الاصولية التي نظمتها القوانين، وانما تخضع الى مبدأ شرعية القوانين من حيث مطابقتها للدستور، وأن أية مخالفة للنصوص الدستورية توجب انعدام النص القانوني وإبطاله وعدم شرعيته حتى وإن كان صادرا من السلطة التشريعية، ولا يكون له أثر قانوني منتج.
ويختص القضاء في الفصل بين الخصوم في القضايا المنظورة امامه، كما يقوم بتطبيق نصوص الدستور والقوانين المشروعة النافذة تطبيقا صحيحا وفق الالية التي يرسمها قانون اصول المحاكمات الجزائية في القضايا الجزائية، وقانون المرافعات المدنية في القضايا المدنية، وبالنظر لتشعب العلاقات بين الناس فقد تطلب الأمر أن يتم توزيع اختصاصات العمل القضائي بين المحاكم المدنية والجزائية والإدارية والتجارية للفصل في مختلف تلك المنازعات بين الخصوم وفقا لما رسمه قانوني المرافعات المدنية وأصول المحاكمات الجزائية، وتخضع جميع القرارات القضائية الى طرق الطعن الأصولية التي رسمتها القوانين، إذ لا حصانة لأي قرار او حكم مدني او جزائي او اداري من الطعن، باستثناء قرارات المحكمة الاتحادية العليا التي عدها الدستور باتة وملزمة للسلطات كافة من تاريخ صدورها.
ووفقا لما ورد اعلاه يكون القضاء العراقي المرجع المحايد والمختص بالفصل في كل المنازعات الناشئة بين الدولة والأفراد وبين الأفراد انفسهم فيما بينهم، كما يختص القضاء ايضا في الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة، ويكون مرجعا في تفسير النصوص الدستورية والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق تلك النصوص، كما تفصل في الخلافات الناشئة بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية، والمنازعات الحاصلة بين حكومات الاقاليم والمحافظات والفصل في التنازع الاختصاصي بين القضاء الاتحادي وقضاء الأقاليم والفصل في الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمصادقة على نتائج الانتخابات النهائية، وعلى هذا الأساس فأن كل تدخل باي شكل كلن من اية سلطة في عمل القضاء أو في شؤون العدالة يعتبر باطلا ينبغي ازالته واعلان بطلان اجراءاته.
ان القضاء سلطة مستقلة الا انها متوازنة مع السلطات الاخرى، بمعنى انها غير منفصلة انفصالا تباعديا، ومهمته التخصص في اصدار الأحكام والفصل في المنازعات وبقية المهام المنصوص عليها دستوريا وقانونا، وهو جهة محايدة حتى يمكن ان يتم تحقيق العدالة، وسلطة القضاء ليس فقط في استقلالية مرجعه او قراراته انما تنسحب الى رجال القضاء بما يوفره لهم الدستور والقانون من حصانة وضمانات لضمان هذه الاستقلالية، وهذه الاستقلالية للقضاء هي نتيجة طبيعية من نتائج الالتزام بمبدـ فصل السلطات.
وللتأكيد على استقلالية القضاء نصت المادة (95) من الدستور على حضر انشاء المحاكم الخاصة والاستثنائية، مادام قانون التنظيم القضائي قد نظم كيفية تشكيل المحاكم وانواعها ودرجاتها واختصاصاها، وبالتالي فان كل تشكيل او نوع او اختصاص يخرج عن هذا الاختصاص يعد باطلا، فالقرارات التي تصدرها الهيئات والتي تمس حياة او حرية او مصدر دخل او خدمة المواطن أيا كانت خارج نطاق القضاء العراقي مخالفة للدستور.
القرارات الصادرة من هيئة المسائلة والعدالة قرارات يصدرها موظف تنفيذي، وهي قرارات حكم تمس حياة المواطن العراقي وتخضع للطعن امام هيئة قضائية في محكمة التمييز الاتحادية، وبالتالي فهي قرارات تتناقض مع مبدأ استقلالية القضاء المنصوص عليها في الدستور، كما ان ما تقرره هيئة النزاهة من قرارات بحق الافراد يعتبر انتهاكا لتفرد القضاء في تلك القضايا ولا يمكن ان تكون الهيئة الا بمثابة جهة تنفيذية تحقيقية اولية تعرض الامر على القضاء، وبالتالي لا يحق لموظف في هيئة النزاهة ان يطالب القضاة بعرض وكشف اموالهم وممتلكاتهم امامه ومحاسبتهم، ولأن شؤون القضاة تختص بها الجهة المشرفة على عمل القضاة (مجلس القضاء الأعلى - وهيئة الأشراف القضائي) فلا يمكن ان تكون جهة تنفيذية تشرف على سلوك ونزاهة وعمل القضاة، لأنه يكون في موقع المحاسب والمشرف على القاضي، في حين لا توجد جهة تطالب هذا الموظف بعرض وكشف امواله وممتلكاته ، كما ان تفتيش القاضي لا يكون الا من قبل جهة قضائية بينما يتم تجاوز هذا المبدأ والحصانة التي يتمتع بها القاضي.
وبالرغم من حاجتنا لإلغاء القوانين القديمة المخالفة لمبادئ الدستور، لم نزل حتى اليوم نلمس صدور قوانين مخالفة للدستور وانتهاكا لمبدأ استقلالية القضاء بشكل صريح وواضح ونافذ ، وعلى سبيل المثال لا الحصر صدر القانون(12 لسنة 1995) قانون صيانة شبكات الري والبزل وقد تضمنت المادة(11) منه تخويل مدير عام الهيئة ومديري الري في المحافظات وهم من موظفي السلطة التنفيذية سلطة (قاضي جنح) لفرض الغرامة وعند وجود ما يستوجب العقوبة فله توقيف المواطن واحالته على المحكمة المختصة، وجعل الطعن في هذا القرار امام وكيل وزارة الري وعضوية المدير العام الفني في الوزارة واعتبر التقرير المقدم من الموظف المختص دليلا كافيا لا ثبات المخالفة.
ان منح الموظف التنفيذي سلطة قاضي انتهاكا صارخا للعمل القضائي ومخالف للدستور، كما انه في العام 2006 وبعد صدور الدستور العراقي أستمرت العديد من القوانين التي تصدر خلافا لأحكام ومبادئ الدستور، وبالرغم من بطلان هذه القوانين الا ان العمل يستمر بها حتى اليوم، مثال القانون رقم(5 ) لسنة 2006 الصادر بتاريخ 12 /3 /2006 والمنشور بجريدة الوقائع العراقية بالعدد 4021 (قانون حماية المقابر الجماعية)، نص هذا القانون بموجب المادة (6 ) منه على تشكيل لجنة برئاسة ممثل عن الوزارة (موظف تنفيذي)، وعضوية قاض يسميه رئيس محكمة استئناف المنطقة، بالإضافة الى عضو الادعاء العام (وهو قاض أيضا) تسميه دائرة المدعي العام، وعدد من الموظفين، وهذه اللجنة التنفيذية التي يترأسها الموظف التنفيذي وجعلت القضاة اعضاء فيها وقرارتها تخضع للطعن امام محكمة الاحوال الشخصية في المنطقة كما لو كانت عملا قضائيا، ودون ملاحظة الخلط والجهة التنفيذية التي ترأس هذه اللجنة غير المنسجمة مع الدستور، وفوق كل هذا فأن المادة (15) من هذا القانون منحت رئيس اللجنة (الموظف التنفيذي) والقاضي ونائب المدعي العام (السلطات الممنوحة للمحقق ) المنصوص عليها في قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل للتحقيق في الجرائم.
ان القاضي يشرف على عمل المحقق وفقا لأحكام المادة (51) من قانون اصول المحاكمات، فكيف يتم منح القاضي سلطة محقق!!
كما ان القانون رقم(17) لسنة 2010 الصادر بتاريخ 15 /2 /2010، (قانون حماية الحيوانات البرية)، والمنشور بجريدة الوقائع العراقية رقم 4148، نص في المادة (10) منه على منح القائم مقام ومدير الناحية سلطة قاضي جنح لفرض العقوبات المنصوص عليها في القانون، ولاسلطان على قرار وحكم القائم مقام أو مدير الناحية، ولأتوجد جهة يمكن لها ان تدقق عدالة هذا القرار ومطابقته للقانون بالرغم من مخالفته للدستور.
وبصدور قانون المفصولين السياسيين تشكلت في كل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة لجان مركزية تفصل في طلبات المفصولين السياسيين، ومجلس القضاء الأعلى من الجهات التي لا ترتبط بوزارة، وتشكل بموجب القانون هيئة فضائية من ثلاث قضاة من اصناف متقدمة تخضع قراراتها الى مصادقة رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو رئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس محكمة التمييز الاتحادية، فأن هذا القرارات يمكن ان تلغى ولايتم المصادقة عليها من قبل موظف تنفيذي في لجنة التحقق في مجلس الوزراء وهي هيئة تنفيذية تابعة لدائرة من دوائر مجلس الوزراء بكل بساطة ودون اعتبار لقرار القضاة ولا لمصادقة رئيس مجلس القضاء الأعلى.
أن خرق المبدأ الدستوري في التدخل بعمل القضاء بشكل غير مباشر يخل بميزان العدالة، وينتهك الأسس التي يقوم عليها الدستور في بناء دولة القانون ، ويضعف ثقة المواطن بقدرة القضاء على تطبيق العدالة ووجود قضاء مستقل يحمي الحقوق والحريات ويكون ملاذ للمواطن في حمايته من اي ظلم او تعسف.
ان عدم وجود سلطة فوق سلطة القضاء لا تعني بالضرورة الهيمنة او السيطرة على القرار القضائي، حيث ان سلب الاختصاص او التدخل او منح الموظف التنفيذي سلطة القاضي تعد سلطة من السلطات السالبة لتفرد القضاء بمهماته القضائية، وتجاوزا على مبدأ حضر انشاء اي تشكيل محكمة او هيئة خاصة او استثنائية تقوم بإصدار قرارات قضائية او احكام يختص بها القضاء مخالفة دستورية وباطلة جميع اجراءتها الصادرة وفقا لذلك، ولهذا وضع الدستور نصا في المادة (97) يؤكد بان القضاة غير قابلين للعزل الا في الحالات التي ينظمها قانون التنظيم القضائي وينظم مسائلتهم وفقا لها قضائيا ضمانا لعمل القضاة المستقل.
وتدخل السلطات الأخرى في العمل القضائي لا ينبغي ان يكون باعتراض القضاة عليه مالم يقترن بعدم الاستجابة وعدم الخضوع لتلك التدخلات مادام الدستور يمنعها، والأمر متروك لحصافة القضاة وحرصهم على تطبيق مبدأ الاستقلالية.
أن الحرص على تطبيق مبدأ الاستقلالية يوجب تدقيق جميع اشكال التدخلات في العمل القضائي حرصا على الانسجام بين مبادئ الدستور وبين القوانين النافذة، وضمانا لتأسيس قاعدة لبناء دولة القانون.