تتميز حديثة بارتفاع أرضها عن مجرى الفرات الذي يغسل تربتها فيزيدها عذوبة ورقة، فيعزلها متميزة عن صحراء قاحلة تمتد حولها فتحيط بها، ولكونها من المناطق المتميزة بأجواء جميلة ومناظر ساحرة فيختارها الآشوريون والبابليون و (العموريون) لتكون من بين أهم مدنهم قبل أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد، ولم تزل أثارهم باقية حتى اليوم، وهم من صنع النواعير التي تنقل الماء إليها من الأسفل، وتشكل حركة دورانها سيمفونية رائعة وأجواء حالمة وترطيب لهواء المنطقة التي يسقيها، فيطيب للناس الجلوس تحت أشجارها المثمرة وهي تتمايل مع حركة رذاذ الماء المتناثر من اغتراف الناعور كميات الماء من النهر، فتبهج لحظاتهم وتزيدهم سرورا ومتعة. تحتضن مدينة حديثة نهر الفرات عند دخوله الأراضي العراقية، فيشكل هواء منعشا لرئتها ويحيط بخاصرتها، وينشر حولها البساتين والمزارع التي تسقيها النواعير، ويشكل خرير الماء المنساب من الأعلى نغما موسيقيا تعشقه الطيور التي أدمنت زيارتها، واللقالق التي سكنت مآذن جوامعها، فزادت من كرم أهلها وعشقهم للعلم والتواضع، وسجلت أسماء من أبنائها العلماء والأدباء والشعراء والسياسيين تتباهى بهم بمداد محفور في القلب.
وما زادها هيبة وجمالا وجود تلك المساجد والاضرحة النابتة في عمق التاريخ العربي الإسلامي، حيث شهدت المدينة بناء معالم إسلامية منذ بداية الهجرة النبوية، لتبقى بصمة من بصمات تلك الرسالة التي تمسك بها أهلها بعقلانية نفتقدها في هذا الزمن، وليس اعتباطا أن يطلق عليها المؤرخون العرب المسلمين إنها (جنة عدن) لما تتميز به من جمال الطبيعة وانتشار البساتين والعيون والينابيع في محيطها، ويزيد على ذلك قيام الحكومات بتشييد سد حديثة الذي يؤمن ليس فقط خزن المياه بل إلى توليد الطاقة، وخلف السد توجد بحيرة ضخمة، و يحتوي على منفذين لتفريغ الكهرباء، وستّ محطات كهرومائية، ومسيل مائي يتألف من ستّ فتحات، يتم السيطرة عليها من خلال بوابات، حيث يقوم السد بتغذيّة احتياجات جميع مدن محافظة الأنبار من الطاقة الكهربائية.
وحين انتشر وباء الطائفية والأحقاد التي زرعها بعض ممن لا يريد الخير للعراق، تمسكت حديثة بإسلامها المحمدي بعيدا عن الطائفية والأحقاد، وبقيت مخلصة لاعتقادها ومبادئها الجامعة لكل المسلمين، لتشكل ظاهرة إنسانية لافتة للأنظار وموحدة للقلوب. وشكلت المدينة وأهلها رمزا أسطوريا من رموز الصمود والتصدي للغزاة، وحين تمكنت القاعدة وداعش من التسلل إلى مدن انبارية عديدة بفعل وتسهيل من بعض ممن خانوا الضمير والشرف والوطن، فانتهكت الشرف وسحقت القيم وفرضت قوانينها المتطرفة والمجنونة، كانت حديثة وحدها ترفض أن يدنس ترابها وحش كاسر أو همجي معتوه أو غريب متطرف، وقاومت ببسالة نادرة مئات الهجمات الغادرة، وقف كل شبابها ونساؤها وأطفالها وشيوخها يتصدون لزمر الإرهاب ومجموعات داعش التي أرهبت الناس وسلبت منهم أمنهم وأمانهم ومالهم وكرامتهم، وببسالة المؤمن المتيقن من حقه في الدفاع عن العرض والأرض والكرامة، دافع أبناء حديثة بأرواحهم وأموالهم رغم كل الحصار القاسي الذي فرضه الأوباش عليها، ورغم قلة الإمداد ومصادر الغذاء، إلا إنهم اقتنعوا بما لديهم فتمسكوا وتعاونوا، فيزيدهم صبرهم وتمسكهم بان تبقى مدينتهم طاهرة نقية، لتبقى أسطورة في الصمود وعدم تمكن فلول داعش من كسر شوكة رجالها وفرسانها، بالرغم من الوعود والتهديد والتخويف والإرهاب، وبالرغم من كل تلك الهجمات والانتحاريين من بهائم داعش، إلا أن حديثة بقيت عصية عليهم، فانتصرت الإرادة على الحقد، وانتصر الخير على الأشرار، وبقيت حديثة مستمرة في أن تكون صفحاتها ناصعة مشرفة في التاريخ القديم والحديث، شامخة برجالها ونسائها، ولايمكن أن تكون المدينة بهذه القوة والتماسك لو لم تتكاتف قوى الخير المتمثلة في كل عشائرها وأولادها الطيبين، ولولا تلك المعنويات التي تتشارك بها تلك النخب التي قررت أن تكون عنوانا للشرف والبطولة والدفاع عن الأرض والعرض، ولولا تلك المواقف التي وقفها رجال الدين ورؤوساء العشائر والوجهاء من أهلها، ولتكون أيضا مقبرة للغزاة والدواعش. وستبقى حديثة بعيدة عن التشدد والتطرف، تعتز أيما اعتزاز بتمسك أهلها بنهجهم المحمدي الجامع، مثلما تعتز أيضا بصمودها الأسطوري المشرف بوجه اعتى الهجمات الإرهابية، وتجاوزها الحصار القاسي والمعاناة الإنسانية التي تحملها أهلها بصبر وثبات، وهي بحق مدينة الصمود والتصدي.