من بين أول المعتقدات التي اعتقد بها الإنسان، وسط حيرته واندهاشه بالخلق والخليقة، وتفكره بصيرورة هذا العالم، ولزوم ان تكون هناك قيما وأحكاما تحدد وتتحكم في أفعاله وتعامله، برزت الديانة المندائية كعقيدة من العقائد التي تعتمد على طهارة النفس، وسلوكا نازعا لنشر المحبة والوئام والسلام والخير بين البشر، نشأت المندائية متسلحة بنصوص ترقى الى مستوى إنساني رفيع، وتتوشح بقيم وأعراف وتقاليد تعتمد البساطة والواقع، وطقوس تعبيرية ورمزية ليس فيها أية تضحيات أو خسارات، غير أن تأكيدها على طهارة الروح وطهارة الجسد معا يشكل ثنائية في الاعتقاد المندائي، فلا يصح التسبيح إلا بالقلوب النقية، والهداية ليس في القلب والجسد إنما تتغلغل في ثنايا الروح.
عالم الشر والظلام، وعالم الفتنة والغش والكذب لا يمكن القضاء عليها إلا باعتماد حقيقة النور المبهج التي تزيح الظلام، وبمواجهتها بنقيضها، ولا يكتمل سمو الروح إلا بطهارتها، ولا ينقضي الغش والكذب إلا بالمعرفة والصدق والإخلاص والتفاني، فيقول كتابهم المقدس (الكنزا ربا) :
((أيها المؤمنون والكاملون * احترموا آباءكم واحترموا أمهاتكم* واحترموا إخوتكم الكبار أجمعين* إن من لا يحترم والديه مدان إلى يوم الدين* لا تنظروا إلى ما ليس لكم لا تشتهوه* ولا تبتغوه ولا تعترضوا على ما وهبكم ربكم خاطئين* إن كل نعمة وهبت بمشيئة رب العالمين* إن أصابكم سوء فاصبروا* واثبتوا في إيمانكم* لاتللوا ألسنتكم * ولا تثنوا ركبكم ولا تحنوا رؤوسكم.. يا أصفيائي إذا رأيتم جائعا فأطعموه* وإذا رأيتم عطشان فاسقوه* وإذا رأيتم عاريا فاكسوه.)) .
ومن يتابع التسابيح في كتاب اليسار من الكنزا ربا المقدس يدرك حجم الدعوة للتمسك بتحرير الجسد من آثامه، وكيف يتوصل الإنسان الى بهاء خالقه الكبير، وكيف تتم مفارقة الخطايا بأعمال الخير، الوصايا التي تؤكد على عمل الخير والجنوح للسلام مفردات تتمسك بها المندائية وتترجمها إلى واقع.
وعلى امتداد التاريخ الطويل، ما لحقنا من كتابات الأولين، لم تتعرض المندائية بالشر لأحد، ولااجبرت أحدا على اعتناقها، ولا رسمت حدودا حصنت نفسها داخلها، ولم تقطع طريق أو تغتصب حق، تلك الحقيقة من بين ما يلفت لقراءة التاريخ البهي لهذه العقيدة الإنسانية، التي كانت ولم تزل تبشر بالخير والطهارة وسط عقائد مختلفة ومتعددة، ومجتمع محكوم بقيود وأعراف، كان المندائيون يتسلحون بالمحبة. وليس اعتباطا أن لا يكون غير الماء الجاري المعبر الرمزي الأكيد للاغتسال، والتطهير الروحي في الدنيا المادية، ولهذا تجد أن اغلب الطقوس المندائية تقوم على وجود الماء الحي، ذلك هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة البشرية، وطهارة هذا الماء جزء من طهارة الرب.
ليس فقط طقوسهم التي تعتمد على (اليردنا) الماء الحي الجاري، ولا العديد من تلك الطقوس التي تمارس وسط موجات الماء الحي غير الراكد، وليس فقط تلك الثياب البيضاء التي تعبر عن الطهارة والنقاء، فالاغتسال ميزة رمزية تعبر عن طهارة الجسد، ولون الثياب البيضاء تعبر عن الطهارة، فنقاء الروح وطيبة النفس والنزوع للخير مميزات تعتمدها المندائية نصا وفعلا.
( صباغة الروح والجسد ) تلك ما تعمده طقوس المندائيين وما ترمز إليه في الاغتسال، تطهير النفس البشرية من شرورها وآثامها، غسلها بالماء الجاري لتعود نظيفة وصافية، واعتماد الماء عصب الحياة وعمودها الأساس في تلك الديانة القديمة قدم البشر.
كلمة مندائي حسب الدراسات اللغوية جاءت من جذر كلمة (صبا) الآرامي، معناها اللغوي (اصطبغ أو غطس أو تعمد)، ويمارس المندائيون طقس الاغتسال في الأنهر الجارية، ولابتعادهم وتشتتهم اليوم صاروا إلى اعتماد مسابح تعتمد الماء الجاري في أماكن سكناهم، وحتى تبقى رمزية الطقس ومعنى الاغتسال باقية معهم تنعكس في وجدانهم، ومعنى كلمة مندائي العلم والمعرفة، ووفقا للآرامية فإنها تشير إلى الذي يعرف او يعتقد بوجود الله خالق الكون، وقد عرف العرب كلمة (صبأ ) أي خرج من الدين بما يؤكد خروج الإنسان من دين الضلالة الى دين التوحيد، وفي لسان العرب خرج من دين إلى دين آخر كما تَصْبَأُ النُّجوم أَي تَخْرُجُ من مَطالِعها.
وقد ورد في الكنزا ربا في سورة التوحيد:
((مسبح ربي بقلب نقي هو ألحي ألعظيم، البصير القدير العليم، العزيز الحكيم، وهو الأزلي القديم، الغريب عن أكوان النور، هو القول والسمع والبصر، الشفاء والظفر، والقوة والثبات هو الحي العظيم، مسرة القلب وغفران الخطايا، مسبح ربي بقلب نقي. يارب الأكوان جميعاً مسبح أنت مبارك ممجد، معظم، موقر، قيوم العظيم السامي، الحنان التواب، الرؤوف الرحيم، الحي العظيم، لأحد لبهائه، ولا مدى لضيائه، المنشرة قوته، العظيمة قدرته، هو العظيم الذي لا يرى ولا يحد، لا شريك له في سلطانه، ولا صاحب له في صولجانه، من يتكل عليه فلن يخيب ، ومن يسبح باسمة فلن يستريب، ومن يسأله فهو السميع المجيب، ما كان لأنه ما كان، ولا يكون لأنه لا يكون خالد فوق كل الأكوان، لا موت يدنو منه ولا بطلان.))
فالطقوس عادة مستلة من عمق الدين ومن بين النصوص المقدسة، وهي تعبر عن نظام العبادة وشكل الشعائر الدينية والعبادات، وتشير (الكنزا ربا) (الكتاب المقدس عند المندائيين) إلى تلك الطهارة والسمو بالنفس الإنسانية والترفع عن الصغائر وتحث على الصدقة والمحبة والسلام، وتأمر المندائيين أن ينشروا خيرهم ومحبتهم على الناس أجمعين، كما ينشر الماء الجاري عذوبته وروعته وبساطته، ومثلما يتم تعميد الطفل المولود حديثا في الماء الجاري حتى تحثه تلك الديانة على أن يكون نقيا وصافيا ومعطاء مثل تلك المياه الجارية التي غسلت جسده وجعلت روحه صافية. والنصوص المقدسة التي يضمها الكنزا ربا تعتبر كلاما مقدسا وتعاليم يوجب الالتزام بها، ويمكن أن يكون تعريف كلمة الكنزا ربا تعبيرا عميقا عن تلك النصوص والتي تعني بالكنز العظيم، ويتطرق إلى قصص الأنبياء والأزمان الأولى التي كانت فيها المندائية تشع على ما حولها من مناطق تقع على ضفاف الأنهار، بالإضافة الى ما ضمته من قصص الخليقة والرسل والأنبياء والتعاليم الروحية والمصادر الأساسية للأيمان بالتوحيد، وتحث تلك النصوص على المحبة والمعرفة وتدعو للطهارة الروحية قبل الجسدية، وقد جسد المجتمع المندائي تلك التعاليم بطريقة عملية، والتزم أتباع هذه الديانة تلك التعاليم ومارسوا تلك الطقوس دون ان يخالفوا تعاليم دينهم في تقديم الخير والمحبة والسلام لجميع الناس.
وإذا كانت الرمزية هي المعبر الأساس في العقيدة المندائية ، فأن طقوسها وشعارها يكملان تلك الرمزية، ولعل تلك الرمزية المعتمدة على البساطة والوضوح تنعكس على شعار المندائية (الدرفش)، وما يسمى بعلم يحيى، وهو شعارهم المتكون من عصى متقاطعة، احدها مدببة من الأسفل تشكل علامة ( +) تلتف عليها قطعة من قماش الحرير الأبيض مشرشبة من الأسفل ويعلوها عدد من أغصان الأس.
ولطالما عبرت الملابس البيضاء عن النقاء والطهارة، فقد اعتمدت المندائية تلك الملابس حتى في طقس الزواج وسط الماء الجاري، ولأن تلك الشعائر ترتبط بالرمزية فأن طقس الزواج يوجب على المتزوجين ارتداء (الرستة) وهي ملابس بيضاء ترمز الى نقاء الضوء وطهارة النفس البشرية، كما إن رجال دينهم يرتدون الملابس البيضاء أيضا. وأهل العراق عموما أكثر معرفة بتلك المواصفات التي التزم بها المندائيين، باعتبارهم من سكنة العراق الأوائل، ومن أهل الديانات التوحيدية القديمة أيضا، ومن المجتمعات التي تمكنت من الاختلاط والانسجام مع عشائر وأعراف وديانات المجتمع العراقي على اختلافها، ولعل أنبل تلك الشعائر ذلك الالتزام الصارم بالمحبة والوداعة والدعوة للسلام التي رافقت حياتهم بالرغم من كل المحن والسلبيات التي رافقتهم والتي عكستها العقلية الساذجة او المتطرفة ضدهم على مر الزمان. فانصهروا ضمن المجتمع العراقي، والتحموا بعشائره وقبائله ودياناته المختلفة، فكانوا يشكلون وحدة اجتماعية متماسكة متلونة مع عدم تفريطهم بعقيدتهم.
فلم نقرا عن ردة فعل قام بها أهل تلك الديانة الأصيلة والغارقة في القدم، والتي تعتمد الطهارة في الفعل والقول، فقد تميزوا بالصبر وتحمل الصعاب، وتسلحوا بالعقل والحكمة، وتجاوزوا محنهم التي تعددت وتنوعت.
تلك الطهارة ليست ثوبا يرتديه المرء، ولا طقسا دينيا شكليا يمارسه المندائي، ولا نصا مقدسا يطالعه كواجب افتراضي، إنما هي ممارسة يومية وأيمان بحقيقة تلك الطهارة التي تغمر الروح والعقل، فتحيل الإنسان الى كائن سامي يجاهد من اجل ترسيخ قيم الخير والمحبة في عمله، ليعكسها على ديانته وطقوسه، هذه الطهارة جزء مهم وحيوي من أسس العقيدة، وكل الطقوس المندائية تحث وتذكر الإنسان بتلك القيم والمعاني العميقة، تلك هي طقوس الديانة المندائية التي تحث على المحبة والخير والسلام بين الناس.
ليس سرا ان تعتمد المندائية على عبادة الخالق الواحد الأحد قبل كل تلك الديانات التي عمت المنطقة ، وليس سرا أيضا أن تحث معتنقيها على البحث والتطوير والعمل وتنقية النفس والصوم والزكاة والصدقة والتعميد والاغتسال في المياه الجارية، ومن يستل من هذه الالتزامات مجموعة بشرية تعايشت مع كل تلك المحن والظروف التي عصفت بالعراق ووزعتهم في مشارقه ومغاربه، وبعثرتهم في كل أنحاء الأرض، غير أنهم وبالرغم من كل تلك القوافل من القرابين التي تقدمت على مذبح حرية الإنسان والعراق، كانوا صابئة مندائيين بحق، نقشوا على جباههم قيم المحبة والتسامح والنخوة والشهامة، ورفعوا مع رايتهم البيضاء الناصعة راية السلام والتآخي.
المندائية ديانة تحث على الطهارة ونقاء النفس البشرية من الحقد والكراهية، مثلما تحث على كل القيم الايجابية، ونجح أتباعها في غرس محبتهم في قلوب وضمائر من تعرف عليهم عن قرب، ويقينا ستبقى المندائية قائمة وعميقة في الروح ما بقي الإنسان.