لا يختلفاحد على أن الفساد المستشري في مفاصل السلطة العراقية، لم تتم مواجهته والتصدي له بأي شكل من الأشكال، لأسباب عديدة منها أن الكتل السياسية الماسكة للسلطة في العراق هي من موغلة بالفساد، كما أن قياداتها الرئيسية تنتفع من هذا الفساد وتستفيد من الصفقات التي تعقدها عناصر معروفة من هذه الكتل والتجمعات على حساب بؤس وفقر العراقيين وتخلف واقعهم الاجتماعي، وعلى حساب المال العام أيضا.
ونعرف جميعا أن الفساد السياسي من اخطر مفاصل الفساد في تهديم وتخريب أسس الدولة المدنية، كما انه يقوض بشكل سافر جميع أركان النظام الديمقراطي الذي نص عليه الدستور العراقي، ويساهم أيضا في استمرار الضرر بالمصلحة الوطنية وفي جميع مفاصل الدولة، ويساهم في استمرار تردي الوضع ألأمني، ويزيد من حصانة الفاسد تجاه القانون والمحاسبة، وفي تردي الوضع الإداري للحكومة، وساهم بشكل مباشر في التفريط بالسيادة العراقية، ويساهم أيضا في تكوين وتعزيز الولاءات السياسية والطائفية بين أفراد القوات المسلحة لأحزاب وشخصيات تخضع لها كما يحدث اليوم، كما يكشف ضعف بنية السلطة وهشاشة الحكم من خلال عدم تمكنها من حماية الشعب والسلطة التشريعية ونفسها كما حصل في الاقتحام الأخير لبوابات المنطقة الخضراء وبناية مجلس النواب.
وبالرغم من تردي الخدمات وفشل السلطة في إدارة شؤون الدولة، وفشلها أيضا في أن يكون الدستور والقانون هو الذي يحكم الحقوق والواجبات ويفرض المساواة بين العراقيين بغض النظر عن أعراقهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، فقد ظهرت صفقات الرشاوى ضمن العقود، كما توضحت لنا عمليات استغلال المناصب وتشكيل الكتل والمحاباة والمنافع الشخصية والإثراء غير المشروع ونهب المال العام تحت غطاء شرعي، وتلمس الناس الملفات التي تختفي بين فترة وأخرى ويتم التستر عليها.
حين خرجت الناس بالمظاهرات السلمية فأنها كانت تطالب باتخاذ إجراءات قانونية رادعة لكل من مارس الفساد، وطالبت بعزل ومحاكمة الفاشلين، وطالبت أيضا بمحاكمة من ساهم بارتكاب جريمة تسليم مدينة الموصل وما حولها، ومن ساهم في جريمة سبايكر، ومن شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في جرائم القتل لبعض المتظاهرين أو المعارضين للسلطة، ولكل من ساهم في تخريب معاني الدولة المدنية وخرق الدستور، ومحاكمة الفاشلين من الذين ساهموا في إشاعة معاني الخراب وتبذير ميزانيات الدولة العراقية وإنهاكها ومن ثم إفلاسها، وكان صوت الناس الفقراء يطالب بتحقيق الإصلاحات وتحسين الخدمات.
وما يحزن النفس أن تلتف الحكومة على تلك المطالب المشروعة والعادلة، فتخرج للناس بعد أن اتفقت زعاماتها على ضرورة تحريف مطالب الناس باتجاه (تغيير الوزارة) إلى (وزارة التكنوقراط)، وكأن المشكلة تكمن في أداء أو فساد وزير معين أو وزارة محددة، وكأن الأمر يتم إصلاحه وتحقيق تلك المطالب باستبدال الكتل لوزرائها.
وأخذت الحكومة والأحزاب الماسكة لزمام السلطة والحكم تطرق على نغمة التكنوقراط، واقترحت بعض الكتل أسماء، وطرحت أخرى أسماء للمناقشة، غير أن أحدا لم يلتفت إلى أن الاستبدال لن يغير من مفهوم السلطة للحكم، ولا يؤثر قطعا في العملية السياسية الفاشلة، ولافي أداء السلطة التي تتراجع يوميا، بل يساهم بشكل مباشر في استمرار الفشل.
وبدلا من تحقيق الخدمات الضرورية للحياة ومعالجة أسباب الفشل في جميع المفاصل، تم التركيز على اختيار أسماء تم ترشيحها ليكونوا وزراء جدد، وكل اعتقاد الكتل والأحزاب السياسية أن الناس ستنسى مطالبها الملحة والضرورية، كما ستنسى إلحاحها بضرورة محاكمة الفاسدين والفاشلين.
وبانعكاس هذا التحريف على مجمل العملية السياسية نتج عنه ما جرى في مجلس النواب العراقي، حيث تكشفت لنا حقيقة الخواء والهزال والنخر والضعف الذي يعانيه المجلس، بالإضافة إلى تحكم أشخاص بالكتل التي تتبعهم تحكما يكاد أن يقطع عليهم حتى حريتهم في الموقف والرأي، فبانوا لاحول لهم ولا قوة وليس بينهم شخصية تليق بأن يكون عنصرا تشريعيا يليق بالعراق، وبدلا من أن يتخذ المجلس موقفا يليق به كمؤسسة تشريعية، وبانقسام المجلس إلى من يريد إبقاء الجبوري رئيسا وبين من يريد أقالته وعزله عن الرئاسة، دخل المجلس ضمن لعبة استبدال الوزراء وانسجم مع تحريف مطالب الشعب.
إن استبدال وزراء بغيرهم لن يحل المشكلة، ولن يحقق جزء من مطالب الناس، ويشكل تسترا على الحقائق التي يريد الناس معالجتها وتريد الحكومة تغطيتها، الخلل في أن الفاسد والمتهم بارتكاب جرائم لاتصله يد القانون لأنه الماسك على زمام السلطة، والخلل في أن الإصلاحات المنشودة لن يتم تحقيقها حتى لو عادت ميزانية العراق المنهوبة والمبعثرة إلى خزينته الوطنية، فالخلل في مجمل العملية السياسية المبنية على المحاصصة السياسية والطائفية والمتناقضة مع ابسط نصوص الدستور العراقي، والخلل في أن لا تلتفت السلطة لمطالب الناس الحقيقية، وتغمض عيونها عن معالجة كل هذا فيزداد الأمر سوء ويتدهور حال كل أهل العراق.