لا يختلف احد على أن الاعتذار يعد تصرفا حضاريا راقيا ينم عن وعي وثقافة وتمدن ومراجعة للنفس، ولا يتقدم الاعتذار إلا بوجود الخطأ والخلل في الفعل والتصرف والموقف.
وبمراجعة المعتذر لذاته يجدد حساباته ويراجع مواقفه بعد ان يدرك فداحة الخطأ والخلل في الموقف الذي اتخذه، ويفتح بذلك مجالا للنقد والتصويب والمراجعة من اجل التواصل والوصول إلى نتائج ايجابية تساهم في الوعي والفعل والفكر والموقف، وتقوم بتصحيح مسار الموقف أو الطريقة التي يتم التعامل بها.
وإدراك الخطأ ينم عن حس عالي ووعي وشعور بالمسؤولية وشجاعة، وثمة أخطاء تترك نتائج سلبية على جمع من الناس. وثمة أخطاء يرتكبها المرء بحسن نية دون ان يحسب عواقبها.وثمة مواقف تجر الى أخطاء مركبة ومتراكمة تترك أثار سيئة في نفوس الآخرين، وما يرفع تلك الآثار ليس جلد الذات لنفس المخطيء، بل في شجاعة الموقف بالاعتذار عن الخطأ والتراجع عنه وتحمل المسؤولية.
ومن كبائر الأخطاء ما يصر عليه بعض الناس مع معرفته بحجم ما ارتكبه من أخطاء، وما يبرره وما يدافع عنه بالرغم من تلك النتائج السيئة والسلبية التي خلفها الخطأ المرتكب.
ولعل صورة الأخطاء التي ارتكبها الحكام في العراق تظهر صورة واضحة وجلية تبين تلك الأخطاء المرتكبة، والتي يتحمل فيها الحاكم او المسؤول وزر تلك الأخطاء، وتبريرهم ودفاعهم عن مواقفهم، بل وفي أحيان كثيرة اعتبار تلك الأخطاء والمواقف من اجل مصلحة الشعب والوطن والمستقبل، ما يؤكد الإصرار على المضي قدما في الموقف الخاطيء.
في حين أنها جرت ويلات وماسي وتركت ندوبا وجروحا غائرة ليس في مساحة العراق وتاريخه، بل تركت أثارها على الشخصية العراقية وعلى المستقبل العراقي، فلم نلمس ولم نسمع حاكما أو مسؤولا يتقدم بالاعتذار من الشعب، ولم يجروء أحد على أن ينتقد نفسه أو يبين الأخطاء التي وقع فيها ولو بشكل غير مباشر أو دون قصد. فالحاكم في بلادنا معصوم من الأخطاء كما يعتقد واهما، والحاكم في بلادنا لايمكن أن يرتكب سيئة أو خلل، والحاكم في بلادنا لا يستمع للنقد ولا يقبل الاستشارة والنصيحة، وهو بهذا الحال يرتكب معصيتين، إصراره على الخطأ وعناده غير المقبول.
ان فقدان حكامنا لثقافة الاعتذار وعدم تقبلها وعدم التعامل بها يدل بما لا يقبل الشك على التردي النفسي الذي يعيشه الحاكم، ويدلل أيضا على تملص الحكام من المسؤولية وما يرتبه الخطأ في الأحكام والتصرفات والمواقف، وما تنتج عنه من سياسات خاطئة مهما كان تبريرهم، حيث يفترض الوعي والمسؤولية أن يدرك المسؤول أو الحاكم حجم ما تخلفه الأخطاء من كوارث وأثار على الناس بسبب تلك الأفعال التي لابد وان يدرك جسامتها وحجم سلبياتها، وانه ليس الوحيد الذي يفكر ويخطط. ودون ذلك تتكاثر المطبات والأخطاء والفشل، ولن يكون هناك مجالا للمراجعة والعودة الى نقطة البداية.
قد يكون من بين أسباب العزوف عن ثقافة الاعتذار الخجل من الفشل، والتخوف من حجم الأحكام التي تخلفها المسؤولية ويتحملها الفاشل، إلا أن الاعتذار والاعتراف بالفشل ينم عن شجاعة وقوة شخصية، وتمرد على واقع متردي ونمط من الأعراف الاجتماعية السيئة.
وأن ثقافة الاعتذار إذا ما تمت ممارستها فأنها ستشكل تحصين للشخصية الحاكمة أو المسؤولة، وهي أيضا خط الدفاع الذي يمنع قدر الأمكان الاستمرار بممارسة الأخطاء وتوزيع الفشل وانعكاس نتائجه السلبية على الناس.
فإذا كانت ثقافة الاعتذار تشكل سلوكا حضاريا وإنسانيا عالي المستوى، فأن الأحجام عن ممارستها يؤكد الابتعاد عن الشجاعة في الممارسة والعمل والتصرف، ويشكل عزوفا اجتماعيا عن الالتزام بها بالرغم من أنها تعكس جانب إنساني.
وتساهم في السيطرة على استمرار الفشل والخيبة التي لازمت تصرفات الحكام، وهي أيضا تبين بشكل واضح مدى هشاشة العقل الحاكم وعدم قدرته على أن يكون قائدا وحاكما بالرغم من الموقع والوظيفة التي أصبح فيها.
وحين يصبح الإنسان مسؤولا يترتب عليه ان يكون بمستوى تلك المسؤولية، يعني انه ينبغي أن يبقى إنسانا لا يعتلي درجات إنسانية أكثر من الناس، وعلى وفق هذا عليه أن يتعلم ثقافة الاعتذار واحترام الحقوق والحريات التي أكد عليها الدستور ومباديء إعلان حقوق الإنسان.
فهل يمكن بعد كل هذا أن يمارس حكامنا ومسؤولينا ثقافة الاعتذار؟
حتى مع هذا الكم الهائل من الأخطاء والمواقف التي جرجرت الناس والبلاد من فشل الى آخر ومن خيبة الى خيبة، فأضاعت البلاد والعباد.