نص الدستور العراقي في الفقرة أولا من البند الأول من المادة الثانية على انه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام، والثوابت هي الاعتقاد بكمال كتاب الله ووجوب التحاكم والتحكيم في حياة الناس وفق ما ورد فيه، بالإضافة إلى اعتماد السنة النبوية، ومع أن العديد من الفقهاء ينفون وجود ثوابت أو متغيرات في الإسلام، باعتبار أن لا اجتهاد في مورد النص، وأن التشريع الوارد في كتاب الله شامل وكامل يصلح لكل زمان ومكان. وفقا لاعتبار الدستور الدين الإسلامي وحده مصدرا أساسيا للتشريع يؤكد نية المشرع لخلق مناخ ديني يحكم التشريع، يتقيد بالقيم والأحكام التي نص عليها الدين الإسلامي دون غيرها من العقائد، بالرغم من وجود ديانات وعقائد وملل أخرى غير الدين الإسلامي يعتقد ويدين بها الملايين من أهل العراق. ووفقا لهذا المصدر فأن كينونة الدولة وان لاتكشف عن تمسكها بقيام الدولة الدينية، فان المشرع أدخل نصا آخر يتناقض مع هذا النص في الفقرة (ب و ج) إذ نص على أنه لايجوز سن قانون يتعارض مع مباديء الديمقراطية، هذا الأمر يتعارض مع التوجهات الفكرية لقوى الإسلام السياسي، وهي التي تقود السلطة وتستحوذ على الحكم، وبالتالي فأنها تعيش التناقض بين النص والتطبيق، بين الحقيقة والواقع، فآليات العمل الديمقراطي تتقاطع مع فكرة الخلافة وشورى الحكم الديني، بل وتتعارض مع مبدأ المساواة بين العراقيين بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم، وتنسف مبدأ المساواة بعد أن جعلت دينا معتمدا للدولة دون باقي الديانات، دينا رسميا للدولة مع إن الدولة شخص معنوي، وجعلت أيضا ثوابت دين معين مصادر أساسية للتشريع.
أن التسليم بعدم سن قوانين تتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام يسحب الأمر إلى تطبيقات الشريعة الإسلامية حصرا، والأحكام كما نعرف مختلف عليها مذهبياً، إذ لا يغب عن البال أن الاجتهادات الفقهية بمثابة الأحكام الخاصة بكل مذهب، والعراق إضافة إلى كونه بلد متعدد الأديان، فانه متعدد المذاهب أيضا، وليس ثمة مشكلة إذا كانت المواطنة هي الأساس، ولذا فأن جعل الأمر في سن القوانين الوضعية تحت سلطة المذاهب ووفقاً لأحكامها أمر يكاد أن يكون مستحيل وغاية في الصعوبة. إذ أن المذاهب نفسها لا تتطابق في الرؤى وتختلف في العديد من الأحكام والأجتهادات، وهذا أحد أسباب كونها مذاهب تتبع مدارس مختلفة، ولايمكن أن تتفق على قضايا متعددة، مما يجعل الأحكام متشعبة ومختلفة وتضع المواطن تحت رحمة هذا التشعب والاختلاف. كما أن اعتبار الإسلام مصدر أساسي للتشريع يقيد عملية التشريع، فيستوجب اعتباره أحد المصادر الأساسية في التشريع وليس المصدر الوحيد، مما يجعل النص متطوراً ومنسجماً مع تطوير النصوص القانونية وانسجامها مع متغيرات الحياة، بالإضافة إلى اعتماد عدة مصادر مساندة للتشريع، تجعله واسعاً ومنسجماً مع التعددية الدينية والمذهبية والفكرية ومع الواقع الإنساني بدلاً من جعله نصاً منفرداً وموجبا دون غيره.
ومن اجل فرض شكل تلك الثوابت والتزام الدولة بهوية الدين الإسلامي، فان الحفاظ على الهوية الإسلامية للغالبية من العراقيين من الضمانات التي تلزم السلطة وتعتمدها الدولة في بنيانها، ولغرض تطمين بعض المكونات فقد ضمن الدستور الحقوق الدينية لبقية الأفراد (المسيحيين والأيزيديين والصابئة المندائيين)، دون أن يرد ذكر للكاكائية والبهائية. وضمان الحقوق تعني ممارسة الطقوس الدينية وحرية العبادة والشعائر، ومن يعيد قراءة الديباجة يجد أن الإشارة إلى القيادات الدينية والمراجع العظام دليل للتأكيد على الهوية الطائفية الدينية الإسلامية، دون أن تتشارك في هذه الهوية بقية المكونات التي خصها الدستور بضمان الحقوق الدينية. أن نظام الدولة الفيدرالية يقترن بشكل وثيق بمباديء الديمقراطية، باعتبار أن الفيدرالية نمط من أنماط شكل الحكم، تتوزع السلطة فيه بين الحكومة المركزية الاتحادية وبين حكومات الأقاليم. أما الحكم الديمقراطي فيعني حكم المشاركة الفعلية للشعب دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو المذهب أو القومية أو المعتقد، وبالتالي فهو حكم الشعب الذي يعتمد الأساليب المعاصرة في الحكم والسياسة، بينما تعارض قوى الإسلام السياسي فكرة اعتماد الديمقراطية في التطبيق مع تبجحها بأنها تغض النظر عن وجودها في الدستور، وعكست لنا تجارب حكم الإسلام السياسي في المنطقة أشكالا من الاستبداد والفرض والهيمنة ومناصرة الحاكم لتعكس صورة سلبية تتنافر مع التطور المدني للدولة وشكل الحكم. فالتقاطع يبدو واضحا بين ما ورد في النصوص المقدسة وبين النصوص الوضعية البشرية، بين النواهي التي نصت عليها الكتب المقدسة وبين الحقوق والواجبات التي تؤكدها نصوص الحريات في المجتمع المدني. الديمقراطية تتجاوز المفاهيم التي يعتقد بها بعض من أحزاب الإسلام السياسي، فلا تقتصر على العملية الانتخابية ومبدأ الأكرية والأقلية، إنما تعتمد بشكل أساسي على التطبيق العلماني في سياسة الدولة، وتعتمد أيضا على فصل الدين عن الدولة، وهو ما تسعى إليه وتطالب به منظمات المجتمع المدني.
ولابد لنا أن نعتبر تأخير واحتدام الخلاف والنقاش حول مسالة خبراء المحكمة الاتحادية من الفقهاء على سبيل المثال على ذلك، حيث نصت المادة الفقرة الثانية من المادة (92) على أن تكوين المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء في القانون يحدد عددهم وطريقة اختيارهم وفق القانون، وهو مالم يجر تشريعه حتى اليوم، والنقاش يجري حول ضرورة وجود خبراء الفقه الإسلامي كقضاة في المحكمة ولهم حق النقض لضمان تطبيق الثوابت التي نص عليها الدستور، ووفقا لهذا فأن وجود ضمانات في المحكمة الدستورية يشكل انسجاما مع تطلعات قوى الإسلام السياسي في فرض فقهاء من الدين الإسلامي على تلك المحكمة دون باقي الديانات، بالرغم من مبدأ المساواة الذي ورد دون تطبيق أو اعتبار.
ولكون ثوابت الدين تحتم تقييد حرية العقيدة، فلا مجال للمواطن أن يقدم على تغيير ديانته من الإسلام إلى ديانة اخرى بينما يتم قبول العكس، وبالرغم من أن نص المادة (42) من الدستور جاء بشكل مطلق والمطلق يجري على إطلاقه كما يقول أهل القانون، حيث أن لكل فرد مهما كان دينه أو مذهبه أو قوميته حرية الفكر والضمير والعقيدة، ووفقا لهذه الثوابت والمتغيرات فأن فرض عقيدة وفكر على عموم الشعب باعتبار إن فكر الأغلبية هو الذي يقيد الأخر. لذا فانه لا يصلح في العقائد والأديان الأخرى، ولايمكن أن يتناسب مع الأوضاع الجغرافية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي يتجاوز العديد من النصوص التي تؤكد المساواة، ويفرض نزعة الأكثرية التي تهيمن على الأقلية، سواء بسبب الدين أو الطائفة أو القومية، فيضيع ميزان المساواة بهذا الشكل. أن نصاً خجولا كهذا يتحدث عن دين واحد هو دين الدولة الرسمي، ويتحدث عن ضمان حرية العقيدة دون الإشارة إلى كون هذه العقيدة دينية أم سياسية أو مذهبية أم اجتماعية أو اقتصادية، فأنه يشير إلى الممارسة الدينية دون أن يخرج عن معطف النص الذي يشير إلى أسلامية السلطة. وفي المادة الثالثة عشر أعطى الحق للعراقي بحرية الفكر والضمير والعقيدة الدينية وممارسة شعائرها وحرم الإكراه بشأنها.
العلمانية أيضاً تعني بحرية المعتقد على الصعيد الفردي، مثلما تسمح لأي مجموعة ممارسة الشعائر الدينية بشكل عام ولأي كيان اجتماعي متمتعاً بقدر واف من الاستقلالية عن سلطة الدولة، وهي لا تعني قطعاً مواطن بلا دين أو مجتمع بلا دين، وإنما تعني دولة وسلطات حاكمة لا تنحاز لدين أو أقلية عرقية، أو طائفة أو مذهب معين، ولا تدعو العلمانية المؤمنة إلى فصل الناس عن دينها، لكنها تدعو لإنشاء سلطة لإدارة دولة حديثة تقوم على مبدأ التعددية الثقافية والدينية والسياسية، تجد انعكاسا لها في هيكل السلطة دون أن تتعكز على دين أو مذهب معين.
ومهما يكن الأمر فأن قانون الأحوال الشخصية العراقي النافذ المرقم 188 لسنة 59 المعدل بوضعه الحالي لا يساعد في الإشارة إلى حقوق الأديان الموجودة في العراق، والتي لم يشر إليها نص الفقرة ( أ ) من المادة الثانية منه، كون سريان أحكام القانون عامة تسري على كل العراقيين إلا ما أستثني منهم بنص خاص، ولم يتم استثناء معتنقي الصابئة المندائية ولا الديانة الأيزيدية بنص خاص، مما يوجب حكماً أن يتم تطبيق قانون الأحوال الشخصية الخاص بالمسلمين عليهم. وحتى لو فرضنا جدلاً أن هذا القانون يحقق العدالة فأنه يحققها للمسلمين ولايمكن أن يرغم أبناء ديانة أخرى على تطبيق نصوص أخرى من غير دينهم عليهم، لأننا سنجد أنفسنا مخالفين لنصوص دستورية غاية في الأهمية وردت ضمن حقوق الشعب العراقي، في حق المواطن أن يراجع المحكمة المختصة التي يجدها تقوم بتطبيق النصوص الشرعية لديانته ووفق خصوصيته الدينية.
تكمن الحرية الدينية في صميم أي مجتمع يسعى إلى الحرية والديمقراطية وبناء أسس عادلة في الحياة، وهي مجسدة برسوخ وبمثابة قيم اجتماعية وإنسانية منسجمة مع الشرائع الدينية ولوائح حقوق الإنسان، كما أن الحق في حرية الدين يشكل حجر الزاوية للحياة الديمقراطية، وهو المقياس الحيوي في تشكيل وصيانة أي نظام سياسي مستقر، وبالمقابل فأن التقصير في حماية حرية الأديان والحقوق الإنسانية الأساسية الأخرى ينمي التطرف ويقود إلى عدم الاستقرار والعنف ظهور اتجاهات تنحرف عن المقاصد النبيلة والدعوات الإصلاحية لأي دين، وبالتالي تحريف الهدف الأساس وصيرورة الفعل الجرمي والسلوك الحيواني وسيلة من وسائل مستترة بأسم الدين للوصول إلى غايات غير مشروعة ومقترنة بالعنف والإرهاب. فتقييم أوضاع الحرية الدينية قد يخدم أحياناً كثيرة للمساعدة في تشخيص طريقة البناء والاستقرار لدولة ما، ولهذه الأسباب وغيرها يبقى تعزيز الحرية الدينية عنصراً لازماً لسياسة الدولة العراقية الديمقراطية الفيدرالية.