ضمن البلدان التي تشتت فيها كل أبناء الأمة الكوردية، كان هاجس الحقوق والإرادة ما يشغل عقل كل المخلصين والمتعاطفين مع القضية الكوردية، لتخليصها من الواقع المرير الذي عكسته سياسات الاستعمار في تقسيم أراضيها وتفريق شعبها، وبالرغم من سعي السلطات الحاكمة لإلغاء حرية الإنسان والعمل على إلغاء إرادته في تقرير مصيره ضمن تلك الحقبة الزمنية الكالحة، فقد بقي صوت الحق والمطالبة بالأنصاف سالكا جميع الطرق الممكنة والمقبولة، وحتى اللجوء إلى طريق الكفاح المسلح في مناطق عديدة كأخر حل من الحلول، غير أن الحكام كانوا يصمون آذانهم ويغلقون ضمائرهم وعقولهم عن الاستجابة لتلك الحقوق المشروعة.
حقبات تاريخية امتلأت صفحاتها بالنضال من أجل حقها في تقرير مصيرها، وحقها ألإنساني في الحياة والكرامة، قدم فيها الكورد قوافل من الشهداء، وضحى فيها العديد من النساء والرجال، كل ذلك من أجل حرية الإرادة التي تعتبر القاسم المشترك لجميع الآراء في شكل حق تقرير المصير.
وحق تقرير المصير في اختيار شكل الحكم والسيادة التي يريد الانتماء إليها أي شعب، وهو جزء أساسي ولا يمكن فصله عن المبادئ العامة لحقوق الإنسان ، وهذا الحق أيضا نتيجة التضحيات والمخاضات التي ناضلت من اجلها جميع الشعوب المسلوبة الإرادة والمضطهدة، والتي سطرت في سبيلها الملاحم والتضحيات عبر نضالها الطويل خلال المسيرة الإنسانية، من أجل الإقرار بهذا الحق، بديلا عن الهيمنة والإلغاء والتهميش، وعن سيطرة مجموعة بشرية على مجموعة أخرى بأي شكل كان.
وإذ يختار الكورد شكل النضال الذي يدعم حقهم في الحياة، وحضورهم السياسي حتى ضمن المناطق التي تجزأت من وطنهم كوردستان، فأنهم يبرهنوا مرات عديدة للعالم بأنهم شعب يستحق الحياة، رغم المرارة والقسوة التي تحملها جيل لفترة زمنية طويلة. حين نجح الكورد في كوردستان العراق بتثبيت تلك الحقوق، ليس باختيار السلطات العراقية التي تعاقبت على الحكم، إنما بتضحياتهم ومواقفهم الداعمة لهذه الحقوق، فقد تم تبني الطريق الديموقراطي كشكل من أشكال الحكم في ممارسة السلطة، فإذا كانت الديمقراطية تعني المشاركة الشعبية في السلطة من خلال أحزابها أو تجمعاتها السياسية ومن خلال تفاعل منظمات المجتمع المدني، فأن تطوير شكل الحكم واستحداث القوانين المتلائمة مع الظروف الإنسانية للمجتمع، والتوافق على دستور وبرنامج يشمل التطوير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فأن مهمات أخلاقية كبيرة تقع على عاتق المسؤولين القابضين على السلطة في كوردستان العراق لترجمة معاني الديمقراطية، والأيمان الجاد بالنظام الاجتماعي الجديد بما يجعل من كوردستان العراق شعلة وهاجة تنير طريق الكورد في كل الزوايا التي تم تقطيعها من الوطن.
وإذ يشتد التحدي اليوم حول مستقبل الكورد في المنطقة، وتبرز النوازع الشوفينية من أعداء كوردستان ومن داخل الجسد الكوردي، فأن الممارسات التي تتسم بها ثقافة المجتمع، تدلل على الوعي والممارسة السلمية الفاعلة والأيمان بالتداول السلمي للسلطة ، واحترام الاختلاف وحق الآخر في الرأي، كما أن تلاحم الكورد ووحدتهم يدلنا على حجم الوعي الذي وصلته الأحزاب السياسية في كوردستان العراق.
وبالديمقراطية نفسها أثبت الكورد في تركيا أنهم رقما صعبا وحاضرا ويستطيع التأثير على الأحداث، وبالرغم من الرغبة العارمة للجنوح نحو السلام وتجنب القتال، إلا إن تلك الصفحة لم تنتج سوى الخسائر البشرية والمادية لجميع الأطراف، ومع كل تلك المماطلة والتسويف في الإقرار بالحقوق، ولأن بقية الطرق مفتوحة وغير مغلقة، فقد لجأ الكورد في تركيا إلى الممارسة الديمقراطية، وتمكنوا من فرض أرادتهم والتمسك بأملهم في التغيير باتجاه الإقرار بحق الشعوب في حريتها وتقرير مصيرها، وبجدارة تمكنوا من الدخول إلى البرلمان وإيصال صوت الحق والحرية إلى السلطة التشريعية.
ولطالما كانت الحلول السياسية البعيدة عن القتال والحروب دلالة أكيدة على مقدار الوعي في حال إذا لجأت الأطراف إلى هذه الحلول، وأمام التجربة العراقية التي مرت ولم تزل تمر بممرات خانقة ومطبات عنيفة، يساهم في خلقها بعض السياسيين ممن لا يتسع نظرهم ولا عقولهم لفهم المستقبل ومعاني الحياة الإنسانية الجميلة، أمام التجربة العراقية امسك الكورد في العراق بحريتهم وباختيارهم أن يكونوا جزء من الدولة الاتحادية، على أن يكون التمسك بالنظام الجمهوري البرلماني الديمقراطي شرطا وسببا أكيدا ومن أهم المباديء الأساسية التي يتمسك بها أهل كوردستان.
مهمة بناء الدستور لإقليم كوردستان وفقا لما تقرره المادة (120) من الدستور الاتحادي، والدستور سيحدد الهيكل التنظيمي لسلطات الإقليم التشريعية منها او التنفيذية والقضائية، فالإقليم يتمسك بمبدأ الفصل بين السلطات، والدستور سيحدد ممارسة تلك الصلاحيات، وهذا يعني نضوج التجربة الديمقراطية شكلا.
مشروع دستور الإقليم يتطلب من الجميع التحلي بروح المسؤولية والنظر للبعد ألأسمى في أن يكون هناك نظام كوردي ديمقراطي ينضج بشكل عقلاني وسليم، وبناء تجربة ناضجة ومضيئة نواة لكوردستان كلها، وهو نفس السلوك الذي يريده كل شعب كوردستان في المنطقة، مع تمسك الجميع بحقهم الثابت في الحرية التامة وممارسة سيادة الشعب وقراره السياسي بما لا يتقاطع مع الديمقراطية كسلوك ومع النهج الذي تسلكه الدولة وفقا لما نصت عليه المباديء العامة للدستور الاتحادي.
بهذه التحولات السلمية والسلوك الديمقراطي تسجل الشعوب انتصارها، بينما برزت النوازع الشوفينية الدفينة ليس في الاتهامات الفارغة والساذجة التي أطلقتها بعض الأصوات ضد الكورد
إنما في تلك الرغبات المريضة والرافضة لأي حق من حقوق شعب كوردستان، متناسين انه اختار بإرادته السياسية النظام الفيدرالي مع العراق الجديد بشرط التداول السلمي الديمقراطي للسلطة واحترام قواعد القانون ونصوص الدستور وتحقيق العدل والمساواة وتبني أسلوب التوزيع العادل للثروة، وان الالتزام بهذه المبادئ التي أكدها الدستور هي التي تحفظ للعراق اتحاده ووحدته.
وإذ يسجل الكورد انتصاراتهم فإنهم يسجلون صفحة تمتليء بالمعاني الإنسانية، ومثلما انتصر كورد العراق في بناء الإقليم وتشريع القوانين المنسجمة مع تطور العصر والمجتمع، وفي الممارسات الديمقراطية وبناء الاقتصاد والثقافة، فأن كورد تركيا يسجلون صفحة في التعايش الإنساني وترسيخ أسس السلام، ودلالة على الوعي والقيم النبيلة، والى انتصارات أخرى قادمة في بقية المناطق الكوردية.