ما يعيشه الإقليم من اختلاف في وجهات النظر بين أطراف سياسية فاعلة في الإقليم، ومواقف تصل لحد الاختلاف السياسي، ماهي إلا مخاضات الشروع بتثبيت أسس العمل الديمقراطي كمنهج من مناهج الحياة التي يتطلع إليها شعب كوردستان، وما يتم ممارسته من تطور اجتماعي وإصرار على التمسك بقيم الديمقراطية ينعكس ايجابيا على التطور السياسي وانتشار الوعي بين الأحزاب الكردستانية العاملة والفاعلة في الإقليم.
وفي الوقت الذي تكون فيه مشتركات وتوافقات بين الكتل والأحزاب السياسية، فمن الطبيعي أن تكون هناك أيضا افتراقات في الرؤى، الأمر الذي يؤكد ظهور قرائن تدلل على الحرية الفكرية ضمن التعددية السياسية المعتمدة في الإقليم، وضمن الاختلافات التي تبرز أحيانا إلى السطح. وظاهرة التعدد في الآراء والأفكار من الظواهر السياسية الصحية، بشرط أن تكون ايجابية وتصب في صالح الناس، بشرط أن يكون القصد المحوري لهذه الظاهرة في التنافس السلمي من أجل قيادة القافلة والسير والوصول إلى مواقع في الأمام، من خلال خطوات أكثر تقدما وعمقا في تحقيق ما يضمن الحقوق الأساسية للمواطن والتي ينص عليها مشروع دستور اقليم كوردستان العراق.
حقق شعب كوردستان العراق مكاسب كبيرة خلال فترة قياسية قصيرة ، هذه المكاسب تحققت بفضل الدماء والتضحيات التي قدمتها قوافل الشهداء وسجلتها أحزابه السياسية المناضلة في تاريخه الحديث، وهذه المكاسب هي التي رسخت مبدأ التداول السلمي للسلطة، وحفزت حالة الوعي الإنساني لدى قيادات هذه الأحزاب السياسية، كما إنها طورت المفاهيم الإنسانية بما ينسجم ويتوافق مع راهن الشعب الكوردي وما يتعايش معه من مجاميع بشرية تختلف قوميا وتنسجم إنسانيا وتعيش معه ضمن البيت الواحد كالتركمان والكلدان والسريان والآشوريين والأرمن والعرب، كما إنها تظهر بشكل واضح وملموس من خلال النظرة المنفتحة إلى الديانات المختلفة التي تدين بها كل هذه المجموعات البشرية التي تقيم على ارض كوردستان، حيث يتساوى الجميع أمام القانون دون تمييز ، هذه المفاهيم هي التي تدفع بالإقليم إلى خطوات أبعد من الواقع الراهن، وتبسط النظرة إلى المستقبل، وتوسع من فكر وأفق قيادات الأحزاب السياسية التي تتشارك السلطة وإدارة دفة الحكم في الإقليم.
العديد من الحريصين على العلاقة الإنسانية والمطالبين بحقوق شعب كوردستان يتابعون ما يجري اليوم في الإقليم، وهم يبدون خشيتهم وخوفهم من تطور الاختلافات إلى صراع لن يكون الخاسر فيه إلا الشعب، الشعب الذي يطالب الجميع بتحقيق الحد الأدنى من متطلبات الأمن والحياة الكريمة والتقدم وضمان الحقوق والتمسك بالديمقراطية كمنهج، ومبدأ التداول السلمي للسلطة كقاعدة، واعتماد سياسة اقتصادية علمية، والانسجام الإنساني في اعتماد مبدأ الحوار والوصول إلى نتائج ايجابية تتشارك فيها جميع القوى السياسية، وبغير تلك المتطلبات تبقى الناس تدور في حلقات مفرغة وتخسر الزمن.
وإذا كان علينا أن نقول أن ما يحيط بخاصرة الإقليم من أخطار، وما يتهدده من مخططات، وما يتمناه أعداء شعب كوردستان، وما يخلفه داعش من خطر حقيقي، وما تخفيه بعض التيارات اليمينية القومية والدينية من حقد وكراهية وعداء للتجربة، جميعها تدعو أن تكون الاختلافات والرؤى والأفكار رصينة وحكيمة ومنسجمة مع الواقع والظرف الراهن، حيث يترتب على الجميع التمسك بالقانون وبالدستور، وان تعبر قيادات الأحزاب السياسية هذه المرحلة وهي اصلب عودا وأكثر تجربة وأقوى تماسكا وأيمانا بالمستقبل الكوردي، وهم يتحملون مسؤولية الأمانة التاريخية لشعب كوردستان المجزأ في عموم المنطقة وتحقيق طموحاته المشروعة.
إن النظام البرلماني الديمقراطي المعتمد في الإقليم يشكل الضمانة الأساسية لشعب كوردستان، وهذا النظام بحاجة إلى دستور تتفق عليه النخب السياسية وينسجم مع الدستور الاتحادي، ويقينا إن جميع الكتل السياسية تدرك جيدا ضرورة أن تبسط مواد الدستور تفاصيل الحياة القانونية في الإقليم، وان يكون الدستور وثيقة ترسم اطر الحياة القانونية للمستقبل، وان يتم التخلص من انعكاسات الماضي والسلبيات التي ألت من المرحلة السابقة عند رسم النصوص الدستورية، وأن يعي الجميع أنهم يخططون للمستقبل من خلال الإحساس بالمسؤولية، وأن يتم التوصل للتوافق الوطني ومشاركة جميع الأطراف العاملة والفاعلة في الساحة السياسية كضرورة وطنية ملحة، وان نزيد من فاعلية الوعي الدستوري والقانوني للمواطن ليتعرف بدقة على حقوقه وواجباته.
وبتوفير الضمانات الأكيدة لممارسة حرية الفكر والعقيدة وحقوق الإنسان، وتوفير أجواء الحرية لمنظمات المجتمع المدني نضمن الوعي الاجتماعي، ونحصن التجربة، وندرك جيدا أن جميع المناصب والمراكز في السلطة ماهي إلا مهمات تنفيذية تدعو للتنافس من أجل بذل أقصى الجهود لخدمة الشعب.
في ظل هذا الظرف الصعب الذي تمر به حياة الناس في الإقليم، يتطلب الأمر مزيدا من التروي والحكمة والتعقل، ويتطلب الأمر المزيد من الحوارات واللقاءات والتشارك بالقرارات، وفي مثل هذا الظرف ومع تراكم الإشكالات التي يعيشها الشعب ندرك جيدا أن توحيد الموقف والخروج بموقف ضامن لاستمرار التجربة الديمقراطية لتقترن بالاتفاق على دستور يحدد هيكل السلطات في الإقليم، ويرسم الصلاحيات ويحدد آليات ممارسة تلك الصلاحيات، منسجما ووفقا لما نصت عليه المادة (120 ) من الدستور الاتحادي.
أن تجربة ممارسة السلطة لمدة تصل إلى الربع من القرن كافية وكفيلة بأن تمنع أي تصادم او تناحر سياسي بين الأطراف السياسية، فالهدف واحد، والمشتركات أكثر من قضايا الاختلاف، والتنافس على من يتقدم بخطوات لخدمة الإنسان، والشرائح الفقيرة والمحددة الدخل في الإقليم بحاجة ماسة لأن تلمس هذه المشتركات في تفاصيل حياتها اليومية، بحاجة إلى أن تدرك ما يتحقق لها من وسائل تضمن قوتها وكرامتها بعيدا عن السلاح وبعيدا عن التناحر السياسي، وعليها أن تدرك جميعها أن هناك هدف سامي ونبيل يجمع كل الفصائل والاحزاب والتيارات في استعادة كوردستان لكل الكورد.