سيبقى اسم (لي كوان يو) عاليا وناصعا ليس في تأريخ سنغافورة فحسب، بل في التاريخ الإنساني، فقد تزعم هذا الرجل حزب العمل الشعبي، ولي كوان حاصل على شهادة في تخصص القانون. ثم عاد إلى سنغافورة وعمل محاميا لعدة سنوات.
في منتصف الخمسينات أسس مع مجموعة من خريجي بريطانيا حزبا اشتراكيا وتم انتخابه أمينا عاما للحزب. فاز الحزب بانتخابات ررئاسةسنغافورة عام 1959 وعين لي كوان رئيسا للوزراء وعمره 35 سنة.
بعد 6 سنوات أعلن لي كوان استقلال سنغافورة عن ماليزيا. وأصبح لي كوان أول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة بعد الاستقلال.
حين استقلت بلاده عن ماليزيا لم تكن سنغافورة سوى بلد متخلف بلا موارد معروفة، تحكمه الأعراف والتقاليد الدينية الصارمة، وتجتاحه الحروب الداخلية، ويعاني من الفقر المدقع والبطالة والامية والتخلف الاجتماعي وأزمة السكن، وحين استلم (لي كوان يو) زمام الحكم، اختار وزراءه الذين زرع فيهم القدرة والثقة على البناء، والزمهم بارتداء الملابس البيضاء دليل على نظافتهم والتزامهم اجتماعيا وسياسيا بتطوير بلادهم بتجرد وبقدرات متواضعة. وبالرغم من ان الجزيرة الفقيرة استقلت في العام 1965 الا ان قيود الاقتصاد والقروض التي تحيط بالحياة يكاد ان يحبط كل تطلع او قدرات لبناء ستراتيجية للتغيير، إلا أن إصرار الفريق الحاكم، ووضوح الهدف مع توفر النية المخلصة في عملية البناء الوطني شكل بدايات النجاح والتغيير والتطلع نحو المستقبل.
لم يسجل التاريخ والأحداث أي فساد او شبهات على المسؤولين، وكان الفيصل الذي تم اعتماده في تشريع قوانين صارمة يتم تطبيقها على الجميع دون استثناء، كما تم اعتماد خطط علمية مدروسة لا تعتمد الخطابات الكلامية ولا التبريرات غير المنطقية، فتم تشكيل فرق اختصاص في مجالات عدة، للاستفادة من واقع الحال، ونقل البلاد الى مرحلة أخرى، برز في تلك الفترة وزير المالية الدكتور كوكينغ سوي والذي عرف بمهندس الاقتصاد السنغافوري الذي اعتمد سياسة اقتصادية علمية أدت إلى النجاح الاقتصادي في سنغافورة، كما حافظ على بعض السياسات الاقتصادية الإيجابية التي تركها البريطانيون.
كان من بين أهم هذه المشاريع برنامج إدخار وطني إجباري هذا البرنامج يجعل الموظفين يشاركون بنسبة من رواتبهم الشهرية في ادخار مستقبلي، بفضل ذلك تمكن اليوم حوالي 85% من السنغافوريين من امتلاك منازل لهم.
بدأت تتشكل في سنغافورة معالم اقتصاد وطني، وبدأ الشعب يلمس ذلك التطبيق القانوني السليم، وصار السنغافوريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وأعراقهم متساوين في الحقوق والواجبات فعلا وقولا، وتم التركيز على نزاهة النظام، وتم التعامل بكل صرامة وقسوة مع أي ملف او شخص يتم اتهامه بالفساد بعد ثبوت تورطه، مما جعل ثقة الناس عالية في قيادة البلاد، حيث تم اعتماد توظيف الرجل المناسب حقا في المكان المناسب دون اي اعتبار حزبي أو ديني أو قومي او عن محسوبية أو قرابة مع المسؤول.
تم اعتماد أسس متينة وعملية وواقعية في قضية التغيير، سيما وأن سنغافورة تعاني من التعدد القومي والعرقي والديني، اشتعل الطاقم المكلف بالثقافة الوطنية ان يقنع أبناء سنغافورة أن يكونوا شعبا متحدا بغض النظر عن الجنس أو اللغة أو الديانة وأن يتشارك الجميع في بناء مجتمع ديمقراطي يقوم على العدالة والمساواة لنحقق السعادة والرخاء والتقدم.
تمكنت قيادة سنغافورة من نقل البلاد من حالة التخلف الى الوقوف في مصاف الدول المتينة اقتصاديا، وأن تنقل المجتمع من حالة التردي والفقر الى حالة التمسك والتطلع إلى أفق المستقبل، من حالة الأمية والجهل الى حالة التعليم المتطور وبناء المدارس والجامعات، بعد أن استكمل البناء وأزيل الخراب، وتم إنشاء قاعدة متينة وبنى اقتصادية سليمة ساهمت في تطوير كل مناحي البلاد، وتمكن ( لي كوان وفريقه) من صنع دولة لها اسم ووزن بين البلدان، وفي سنة 1990 ترك لي كوان منصب رئاسة الوزراءومنصبأمين عامالحزب السياسي لكنه بقي رئيسًا شرفياً له وشخصية سياسية مهمة.
واقترن اسمه بعملية بناء النهضة المعجزة لسنغافورة، لم يتمسك بالسلطة ولا طالب بإعادة انتخابه. وفي بلد مثل العراق تطغي عليه معالم الفساد والتخلف والتراجع، وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على توظيف الإيرادات والموال لصالح الشعب، ولضياع واختفاء مئات المليارات من الدولارات من خزينة البلاد، طلبت الحكومة العراقية من منظمة الامم المتحدة مساعدتها في قضية محاربة الفساد المالي المستشري في العراق منذ عام 2003. وأعلن عن وصول (21) محققا دوليا الى بغداد في نهاية شهر آب2016، جميعهم غربيون باستثناء عربي واحد من الأردن، وذلك للبدء بالتحقيق في ملفات الفساد.
وقد منح هؤلاء المحققين كامل الحرية في تفحص الملفات والوثائق ومراجعة سجلات الوزارات والبنك المركزي وديوان الرقابة المالية في بغداد. وتشمل مهمات فريق المحققين الدوليين:
تهريب المال والنفط، وعقود التسليح. في العراق منذ عام 2003. وتقدر التقارير مجمل سرقات المال العام بحوالي (850) مليار دولار. كما تتضمن تلك المهمات الكشف عن مصير (361) مليار دولار مفقودة من موازنات البلاد بين عامي 2004 ـ 2014، فضلا عن مصير آلاف المشاريع والاستثمارات في قطاعات الكهرباء والإسكان والزراعة، التي أنفقت عليها الدولة ما مجموعه (98) مليار دولار خلال عشر سنوات.
ويقينا لو ان طواقم الوزارات المتعاقبة لو تم الزامها بارتداء الملابس البيضاء، لصارت اليوم سوداء لكثرة ما لطخها الفساد، ولعدم وجود رادع او عقوبة للمفسد، ويأتي قرار العفو الأخير ليساهم في زيادة انتشار الفساد وغياب الضمائر والتمسك بكراسي السلطة.