يشهد العالم توجها نحو الديمقراطية والمجتمع المدني عن طريق الصراع السلمي، ونبذ العنف السياسي والاجتماعي، واعتماد التنوير الفكري والمعرفي، واعتماد فصل الدين عن الدولة، والديمقراطية تعني شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة - إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين - في اقتراح وتطوير واستحداث القوانين. وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.
باعتبار أن الدولة المدنية لكل المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية، هذا الانتماء يستوجب أن يكون على قدم المساواة، وان يقوم بناء الدولة على التسامح والمحبة والتآخي والالتزام بحقوق ألإنسان، بعد أن مرت العديد من شعوب العالم بتجارب مريرة، كان خلاصها وارتقاء مستوى حياة أفرادها ضمن هذا الإطار. والمجتمع المدني يضم في هيكليته المنظمات والجماعات التي تنهض بأعباء التغيير ونقل المجتمع الى حالة أخرى تنسجم مع دولة القانون والحريات ألأساسية، وان القانون هو الفيصل الأساس الذي تعتمده الدولة في بناء مؤسساتها، وقد أشار الدستور العراقي في المادة ( 45/أولا ) على حرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، ودعم هذه المنظمات لما لدورها من أهمية، وتطوير استقلاليتها وبما ينسجم مع الوسائل السلمية التي تدفع باتجاه تحقيق الأهداف المشروعة لهذه المنظمات.
إلا أن دور هذه المنظمات سيكون مقيدا ومحددا مالم تجد لها المساحة الفعلية للتحرك والعمل ضمن هذا الإطار، أي أن هذه المنظمات لابد لها من قاعدة سياسية تمثلها مبادئ الديمقراطية حتى يمكن الاستقرار والعمل عليها ، يحتاج عملها إلى انسجام بين القوانين والدستور مع واقع الحياة الاجتماعي ، وأن اي عبارات او جمل كلامية ليس لها حيز من الواقع تشكل حاجزا لدور هذه المنظمات ، كما أن اي تناقض أو تعارض بين النصوص يشكل تعارضا مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان..
تضمن الدستور العراقي الصادر عام 2005 على فقرات تضمنتها المادة (2) منه تتناقض كليا واحدة بعد الأخرى، فقد نصت الفقرة أولا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولا نريد إعادة الحديث عن كون الدولة شخص اعتباري (معنوي) لايمكن أن يكون له دين أو ضوابط دينية يلتزم بها، إلا أن المشرع حسم هذا الموضوع بان جعل الدين هو مصدر أساسي للتشريع، الضابط الذي تكون جميع التشريعات القانونية ينبغي أن تنسجم مع الدين، بما فيها جميع ما يتعلق بالحياة والممارسات الإنسانية، وبما فيها التشريعات القانونية السابقة، ويدخل ضمنها التحريم والتحليل. وعلى هذا الأساس نصت الفقرة (أ) من نفس المادة على انه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي، وهذه الثوابت تعني القوانين الثابتة والراسخة في أسس كل دين، هذه ألأسس التي لاتقبل التغيير أو التحول أو التغيير بأي شكل من الأشكال، على العكس من المتغيرات التي تقبل التبديل أو التحويل تبعا للظروف، وقد كتبت بحوث عديدة حول مسألة الثوابت والمتغيرات وهي مصدر خلاف بين أهل الفكر، ومثل هذه الثوابت إلزامية توجب ان يتم إعادة النظر في النصوص القديمة حتى تصبح منسجمة مع الثوابت، منها ما يتعلق بالحالة الشخصية والمرأة في الميراث وتحريم الخمر وفرض نسبة الفوائد في البنوك والمصارف، ويمكن أن يأتي النص الوارد ضمن الفقرة ( ب) من عدم جواز سن قانون يتعارض مع مباديء الديمقراطية، هذه المباديء تتضمن منها حرية الدين والعقيدة، وفصل الدين عن الدولة، والشعب هو مصدر السلطات، والحرية الشخصية للأفراد، والمساواة وحرية العقيدة وبضمنها ما ورد في نص الحقوق والحريات المدنية والسياسية، والتي نصت الفقرة (ج ) من نفس المادة على انه لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والواجبات الأساسية الواردة في الدستور.
هذا التعارض لن يتوقف وسيبقى عائق أمام تطور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق. الملاحظ ان نمط الحياة العراقية بحاجة ماسة إلى نهضة تنويرية، فالتخلف الاجتماعي والديني يكاد ان يسيطر على شرائح كبيرة من المجتمع، بالإضافة إلى تفشي ظاهرة التطرف الديني والمذهبي الرخيص، مع ما أفرزته فترة السنوات العجاف في ظل الحكم الدكتاتوري من غياب الثقافة واتساع دائرة الخوف والنأي عن التعارض مع السلطة، وكذلك هيمنة الفكر الواحد والقائد الأوحد وإنتاج ميثولوجيا الحاكم الضرورة، مع وجود حصار نفسي وثقافي واقتصادي فرضته الأمم المتحدة والسلطة معا ، خلال تلك الفترة الكالحة من عمر المجتمع، تسيد العشائرية والطائفية والنزعات القومية المتطرفة تسلب إرادة وقدرات نصف المجتمع، لذلك فان المجتمع العراقي يحتاج اليوم إلى تنوير ثقافي ومعرفي ، ويحتاج إلى ثقافة قانونية يدرك خلالها المواطن العراقي حقوقه الأساسية وواجباته التي يجب أن يلتزم بها، تحرير المواطن من الممارسات الاجتماعية المتخلفة.
ولهذا فان دور التيار المدني ضمن هذه الفترة مهم جدا وفاعل ، إذ يسعى التيار إلى بناء الإنسان ونشر التوعية والثقافة القانونية، اعتمادا على مبدأ فصل الدين عن الدولة، والدولة التي تضمن المساواة بين مواطنيها دون تمييز لا يمكن لها ان تختار دين واحد من بين كل الديانات التي يؤمن بها أهل العراق لتميزه باعتباره الدين الرسمي، ان وقوف الدولة على الحياد والنأي بنفسها عن تلبسها بدين واحد معين يقيها كل أسباب الانحياز، ويجعلها محايدة لاتنكر جميع الأديان ولا تحاربها وتترك أمر الاعتقاد والأيمان بها للمواطن نفسه، وتلك ضمن الحريات الشخصية التي يضمنها الدستور، وأن يبقى شعار الدين لله والوطن للجميع عريضا ويتسع للجميع.
ان توقير رجل الدين لا يكون بحشره في العمل السياسي، ولا بتوظيف قدراته وطاقاته في الاقتصاد والتربية والاجتماع، إنما يكون بأداء مهمته الإنسانية في احترام القيم الدينية، وحماية المعتقدات من الخرافات والطقوس الدخيلة والبعيدة عن المنطق ، ومحاربة التطرف بكل أشكاله، والنأي عن تحقيق المصالح والمنافع الاجتماعية، وعدم استغلال الدين للمتاجرة والمصلحة الشخصية واستغلال عواطف
ومشاعر المواطنين بعيدا عن جوهر فكرة الدين، والنأي عن تحريف فكرة الدولة المدنية إلى دولة دينية أو عنصرية أو طائفية تسحق حقوق الآخرين وتجعل نصوص الدستور لا قيمة لها مطلقا.
مهمة التيار المدني ستكون أكثر وضوحا وتأثيرا ضمن اعتماد أساليب الشرعية القانونية، ضمن نشر الوعي والعمل على إعادة الروح لسعي المواطن للبحث والتقصي والمتابعة، ودوره المهم في عملية البناء والتغيير، ونبذ جميع أشكال العنف والإكراه في جميع الأنشطة السياسية والاجتماعية، والاعتراف بالحقوق القومية والدينية لجميع الشرائح الاجتماعية، واحترام الأخر، ونشر ثقافة الوعي عبر إدراك أهميتة في المجتمع.
ان مستقبل الديمقراطية في العراق مرهون بالنضال والإصرار على مواصلة الطريق لتحقيق الدولة المدنية التي يتشارك الجميع في بناء مؤسساتها، الدولة التي تحترم قيمة المواطن وتضع له الاعتبار الذي يليق به كعنصر فاعل ضمن عملية بناء هذه الدولة، فحركة المجتمع لا تحددها جهة واحدة ولا حزب معين، إنما تتشارك بها جميع المؤسسات والأحزاب والجمعيات والكيانات المؤثرة في الحياة العامة، كما ان مستقبل الديمقراطية يتعلق بنظام الانتخابات وتعميق دور الفرد في الترشيح والانتخاب والاختيار الصحيح على وفق أسس سليمة وفاعلة في صناعة القرارات ورسم السياسات التي يؤمن ويعتقد بها المواطن العراقي بعيدا عن التدليس والغش واعتماد الأساليب المخالفة للقانون.
كما يعتمد مستقبل الديمقراطية في العراق على مدى احترام القوانين، واعتماد مبدأ فصل السلطات، وهو ما أخذ به الدستور العراقي ضمن المواد ( 19/ أولا - 87- 88 - 92 )، وأن يتم اعتماد عدم التدخل في العمل القضائي واحترام قراراته، والتمسك بمبدأ المساواة بين العراقيين بغض النظر عن دياناتهم أو قومياتهم أو مذاهبهم أو أجناسهم أو أصولهم أو مستوياتهم الاجتماعية، كما يعتمد على مستوى القاعدة الشعبية الناضجة والمساندة لفكر التيار المدني، والمؤمنة بفكرة الدولة المدنية ودولة الحقوق، وتتفاعل عمليا مع سيادة مبادئ الديمقراطية، وتوسيع نطاق العمل بهذه المبادئ.
ولعل ظاهرة التناحر والتقاطع السياسي بين الأطراف السياسية مؤشر على عدم الأيمان بالديمقراطية كمنهج، بالإضافة إلى عدم الاقتناع بسيادة مبدأ التسامح والتعايش السلمي بين تلك ألأطراف، واجترار الماضي، وكيل ألاتهامات، والتلاعب بمشاعر وعواطف الناس يشكل عائقا يتقاطع مع مفهوم الديمقراطية في العراق، ومن يريد أن يقيم دولة متينة ومدنية ينبغي أن يحتكم إلى القانون، ويؤمن بهذا ألاحتكام، ويؤمن أيضا بأن الديمقراطية ليست شعارا أو نصوصا يتضمنها الدستور أو القانون، مالم تكن ممارسة فعلية، وتجاوزا لكل السلبيات التي تعيق وضع الديمقراطية على سكتها الصحيحة للسير بالبلاد نحو التقدم والتطور بمشاركة حقيقية من جميع القوى السياسية والاجتماعية، سواء منها القابضة على زمام السلطة، أو من التي خارج السلطة، بغية إنضاج التجربة الفتية في العراق.
والملاحظ تلك الهيمنة التي تقودها قيادات كلاسيكية لأحزاب تتمسك بمواقعها في القيادة والسلطة، وتتبادل الأدوار وهي تتلمس الفشل الذريع في خطواتها وهيمنتها، وفي تطبيقها السياسي، وعدم نضوج فكرها السياسي، وقبولها بذلك الفشل، ومنعها كل الطاقات والقدرات الشابة القادرة على تفهم طبيعة المرحلة التي يمر بها العراق، واداركها لمستلزمات النهوض بالبلاد وممارسة الديمقراطية فعليا، وقدرتها على تصحيح المسارات السلبية والخاطئة لتلك القيادات، وإشاعة مبدأ التعاون المشترك في سبيل التطبيق الفعلي لترسيخ أسس الدولة المدنية التي لن تكون لها قائمة مالم يصاحب البناء تلك الأسس الرصينة في الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان.
ان الابقاء على قيادات الاحزاب ونهجها السياسي في التعامل مع الاخرين وتغييب الحياة الديمقراطية الداخلية في تبادل المواقع القيادية وابقاء سياسة الهيمنة والسطوة على حياة احزابهم للحيلولة دون ظهور جيل جديد من القيادات الشابة المتفهمة لطبيعة المرحلة ولم تلوثها الطموحات غير المستحقة ولا اغراءات السلطة والمال والجاه ،ولها الاستعداد على تعديل نهج وسياسات احزابهم والانفتاح على الاخرين واشاعة ثقافة التعاون المشترك وارساء استراتيجية التغيير لواقع مهترئ بال واعادة البناء الاجتماعي الذي تعرض لسهام الطائفية والعرقية والاثنية واصابته بخدوش عميقة، يصعب التفاؤل بالمستقبل وتجاوز الحاضر.