المتابع لوجهات نظر المختصين في القانون الدولي يجد ذلك التباين والاختلاف في التوصل الى تعريف شامل لحق تقرير المصير، إلا ان حرية الإرادة هي القاسم المشترك في جميع الآراء .
ويرى بعض الفقهاء أنه ((حق شعب ما في أن يختار شكل الحكم الذي يرغب العيش في ظلّه والسيادة التي يريد الانتماء إليها))، وهذا الحق هو جزء أساسي ولا يمكن فصله عن المبادئ العامة لحقوق الإنسان، وهذا الحق أيضا نتيجة التضحيات والمخاضات التي ناضلت من اجلها الشعوب المسلوبة الإرادة والمضطهدة، والتي سطرت في سبيلها الملاحم والتضحيات عبر نضالها الطويل خلال المسيرة الإنسانية، من أجل الإقرار بهذا الحق، بديلا عن الاستعمار، وعن سيطرة مجموعة بشرية على مجموعة أخرى بأي شكل كان.
يمكن القول ان حق تقرير المصير ولد مع الثورة الفرنسية وحروب الاستقلال الامريكية، الا انه لم يتمكن من الظهور كحق دولي معترف به الا بعد الحرب العالمية الثانية، خلال فترة حروب الاستقلال التي خاضتها الدول الواقعة تحت الاستعمار ضد الدول المستعمِرة.
وأذ تتباين وجهات نظر العديد من فقهاء القانون الدولي في أيجاد تعريف شامل لهذا الحق والموقف منه determination self ، مع أن تقرير المصير اقترن منذ القرن السابع عشر بتعبير حرية الإرادة free will، ومع ذلك يرى بعض الفقهاء أن من الممكن أن يكون التعريف الوارد اعلاه تعريفا قريبا من المعاني الأساسية لهذا الحق.
وجاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم 1514 في 14/كانون الأول/ 1960 حول اعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة أيمان شعوب العالم بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الإنسان وبالمساواة، وإيجاد الظروف التي تتيح الاستقرار وإقامة العلاقات السلمية على أساس احترام مبادئ المساواة بين الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير مصيرها.
أن المنازعات الناجمة عن إنكار حرية تلك الشعوب أو إقامة العقبات في طريقها يشكل تهيدا خطيرا للسلم العالمي، وأن للأمم المتحدة الدور الهام في مساعدة الحركات الهادفة الى الاستقلال في الأقاليم المشمولة بالوصايا، والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. وتؤمن أن لجميع الشعوب حقا ثابتا في الحرية التامة وفي ممارستها سيادتها وفي سلامة ترابها الوطني.
وتعرفه المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المرقم 2200 في 16/ كانون الأول / 1966، بأنه لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي، وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وأن على جميع الدول الأعضاء بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسؤولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، أو الأقاليم المشمولة بالوصاية، أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
من الممكن أن يعد نشوء مبدأ تقرير المصير وتطوره تاريخياً ردة فعل ثورية على مفهوم الحق الإلهي Devine right الذي قامت عليه أنظمة الحكم في العصور الوسطى إذ كان إقليم الدولة وسكانه يعدان معاً ملكاً خاصاً للحاكم الذي له بمقتضى سيادته المستمدة من حقه الإلهي أو ما يدعوه "جان بودان": "السلطة السامية غير المقيدة بالقانون" إذ يمارس سلطته عليهما معاً بصفته مالكاً شرعياً.
فإذا تصرّف بجزء من الإقليم شمل تصرفه سكان ذلك الجزء الذي يرتبطون به ويخضعون لمصيره نفسه، ومع تطور الأوضاع ومرور الوقت تولد رد الفعل على المفهوم الديني للدولة. فنمت وترعرعت فكرة أن السلطة إنما تكمن في الشعب الذي يتمتع بحق غير قابل للتصرف في تقرير شكل الحكم الذي يرغب فيه والدولة التي يود الانتماء إليها. وإذا كان الرجوع إلى مبدأ تقرير المصير قد استهل في العام 1526م فإنه لم يجد تطبيقه الفعلي إلا في بيان الاستقلال الأمريكي المعلن يوم 4 تموز1776م وبعدها في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م في فرنسا. وعندما حصلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكة الجنوبية على استقلالها في المدة من 1810-1825م خشي الرئيس الأمريكي “مونرو“ أن تلجأ الدول الأوربية إلى التدخل في شؤون دول أمريكا الجنوبية، فأصدر عام 1823 تصريحاً تضمن حق تلك الدول في تقرير المصير. كما تعهد تقديم الدعم الأدبي والعسكري لحكوماتها التي قامت استناداً إلى هذا المبدأ. ثم بعد ذلك تطور حق تقرير المصير ليصبح حق جميع شعوب العالم في تقرير مصيرها، فتتمسك به تلك الشعوب في خضم نضالها من أجل الاستقلال وتقرير مصيرها واختيار شكل الحكم فيها. كما ان كثيرا من كتّاب القانون الدولي المعاصر اعتبروا حق تقرير المصير من النظام العام الدولي تأكيدا علي أهميته حيث ترسخ حق الشعوب في تقرير مصيرها كحق أساسي من حقوق الانسان، ومن هذا المنطلق أكدت القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة على ضرورة التمسك بحق تقرير المصير، وأن يكون للشعوب الحرية في اختيار شكل الحكم التي تراه متلائما مع ظروفها ومجتمعها، وأن للشعوب غير المستقلة أن تسعى وتناضل من اجل استقلالها وتحررها وأن تحكم نفسها بنفسها.
أن هذا الحق منح بداية للأمم أو الشعوب والقوميات التي أُجبرت على الخضوع لقوميات أخرى في مرحلة المد الاستعماري أو الالحاق القسري أو ضمن مخططات المصالح الدولية، وأن هذه الشعوب ترفض الخضوع وترغب بالحفاظ على هويتها وشخصيتها الوطنية، أو استعادة استقلالها الذي كانت تتمتع بت، أو تحت ظل أية صيغة ترغبها وتريدها. وليس بالضرورة أن يكون حق تقرير المصير الانفصال أو الاستقلال، حيث لكل مجموعة بشرية ظروفها وأنماط حياتها وتاريخها المشترك، وهناك من الشعوب ما تختار الاستقلال التام، بينما لجأت جماعات أخرى الى اختيار الحكم الذاتي أو النظام الفيدرالي، بينما فضلت أخرى البقاء تحت سيادة الدولة المركزية المسيطرة عليها برغبتها ورضاها.
لطالما سمعنا الحكاية التي يتداولها عدد ممن يهتم بالشأن العراقي والتي تقول أن المتغيرات الدولية والسياسة العالمية لا تسمح للكورد أن يكون لهم دولة مستقلة، بل لن يكون لهم دولة مستقلة حتى في المستقبل.
ولكن ألم يسأل أحدنا الآخر: لماذا الكورد وحدهم من تحدد حقوقهم السياسة الدولية؟ وتمنعهم الدول الأخرى من الحصول على حقهم القانوني والطبيعي في الحياة وفقاً للمصالح والمتغيرات الدولية!! ولماذا الكورد وحدهم من لا يتمكن من التمتع بتلك الحقوق التي صارت تطبق على كل شعوب الأرض، وفقا لعهود وشرائع دولية، والتي أقرتها الشرائع وأكدت عليها اللوائح الإنسانية؟ ومتى كانت هذه المصالح والرغبات تحد من مطالبة الشعوب بحقوقها المشروعة؟ وهل يمكن أن نتعكز على هذه الأسباب في التخفي الشوفيني الرافض لإعطاء الكورد حقوقهم المشروعة والإقرار بها؟
لاأعتقد أن أي صاحب وجدان وضمير حي لا يقر أن الكورد شعب لهم تاريخهم ولغتهم وكيانهم الخاص، وكما لا نعتقد أن احداً من أصحاب الوجدان وممن يحترم الإنسان على الأقل لا يقر بأن الكورد شعب مثل باقي الشعوب، لهم ما لكل شعب في العالم وحالهم حال الناس جميعا لا يكبرون عليهم مثلما لا يصغرون عنهم، وأنهم شعب لهم احلامهم وطموحهم وحقوقهم وواقعهم، وانهم كانوا يسكنون على أرض موجودة على الكرة الأرضية ولم يأتوا من المجهول ولم ينزلوا من المريخ مطلقاً!!
فاذا كانت هذه القواسم المشتركة في الإقرار بأن الشعب الكوردي له وجود وتاريخ ولغة خاصة وكيان، وهذا الوجود قديم قدم الإنسان الذي ظهر في كهوف نياندرتال في مناطق كوردستان ، وتأريخ يسجل انهم من الشعوب القديمة والموغلة في القدم في سكنها تلك الجبال، وانهم مجتمع له خصوصيته في اللغة والتقاليد والأعراف، فأن كانت كل تلك الحقائق تدفع لمعرفة حقيقة ما للكورد من حقوق، علينا أن نقرأ الحقوق التي أكدت عليها الشرائع، كما يستلزم الأمر منا بعد ذلك التعرف على الشرعية الدولية لحقوق الانسان التي جسدها الإعلان العالمي لحقوق الانسان والصادر بتاريخ 10 كانون الاول 1948 ، أي قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، فلا نذهب بعيداً في التاريخ ونستغرق في الثوابت التاريخية، وبالرغم من مضي هذه المدة الطويلة في حياة الشعوب والأمم، لم نزل لحد اللحظة نقف مكتوفي الأيدي وفاغري الأفواه تجاه قضية حقوق الأمة الكوردية فيختلف بعض منا ويتحاور من اجل الاقرار او عدم الاقرار بحقوق الكورد، بالرغم من كل تلك الثوابت والحقائق.
برزت النوازع الشوفينية الدفينة ليس في الاتهامات الفارغة التي أطلقتها بعض الأصوات ضد الكورد، انما في تلك الرغبات المريضة والرافضة لأي حق من حقوق شعب كوردستان، متناسين انه اختار بإرادته السياسية النظام الفيدرالي مع العراق الجديد بشرط التداول السلمي الديمقراطي للسلطة واحترام قواعد القانون ونصوص الدستور وتحقيق العدل والمساواة وتبني اسلوب التوزيع العادل للثروة، وان الالتزام بهذه المبادئ التي اكدها الدستور هي التي تحفظ للعراق اتحاده ووحدته.