عن دار المدى للثقافة والنشر صدر للكاتب سالم عبيد النعمان كتابه (الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد – أعادة تأسيسه واكمال بناءه ودوره الفاعل في الحركة الوطنية). وسالم عبيد النعمان مناضلا وقاضيا وكاتبا عرفته الساحة السياسية العراقية، وخبره مسار النضال الطويل، وترك خلفه بعد رحيله أسما لامعا ومسيرة جديرة بالتقدير ومواقف سجلها له بفخر التاريخ العراقي الحديث، ويأتي كتابه هذا شهادة دقيقة ودراسة تكمل سلسلة الدراسات التي كتبها قادة الحركة السياسية الوطنية في العراق، اسهاما منهم بكتابة التاريخ السياسي العراقي المعاصر.
بالنظر لمواكبة الكاتب للأحداث في فترة حاسمة من تأريخ العراق الحديث، وباعتباره طرفا في تلك الأحداث التي سجلها بأمانة ودقة، فقد توغل الكاتب الراحل في اشاراته منذ بواكير تأسيس الحركة الشيوعية في العراق، من خلال أعادة ودراسة الأفكار والاتجاهات الرئيسية التي سادت العصر، فأن كتابه أتسم بغزارة معلوماته ودقتها، بالإضافة الى حاجة المهتمين بالجوانب السياسية والتاريخية والاجتماعية لمثل هذا المصدر، ومع تلك الدراسة الدقيقة التي يؤرخها القاضي والشخصية الوطنية العراقية سالم عبيد النعمان، فأنه يرسم للمتابعين والدارسين خارطة واضحة في معالم العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة وفق خطوط عريضة واضحة، ودلالات وقرائن يجيد تقديمها لترسيخ الحوادث وتثبيت وقائعها وفق معايير الحقائق التاريخية. وبالنظر للدور الكبير الذي اضطلع به يوسف سلمان (فهد)، فقد وضع عنوان الكتاب تحديدا ليؤرخ لمرحلة كان فيها الكاتب رفيقا ليوسف سلمان وعلى مقربة منه، وسجينا معه في فترات غير قصيرة، ومع كل تلك الحوادث التي سجلها بتواضعه الذي أتسم به والذي عرفناه به، ليؤكد إن مجمل ما ورد في الكتاب يشكل نظرة غير متكاملة، وربما يكون شطر مهم منها بمنزلة الشهادة لشخص عمل فترة من حياته المبكرة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.
وأذ يسرد الوقائع التي كان طرفا فيها خلال مسيرة الحزب المذكور، فأن الكتاب يشكل جزءا مهما وكبيرا في تثبيت الوقائع التاريخية ليس للحزب الشيوعي العراقي ولا لاكتمال عملية بناءه ودوره الفاعل في الحركة الوطنية العراقية فحسب، بل من خلال تأكيد البدايات الأولى لنضال الطبقة العاملة في العراق مع ما صاحبها من تأسيس الخلايا المبكرة لتنظيمات الشيوعيين بالإضافة الى انه جزء مهم من تاريخ الحركة السياسية الوطنية في العراق.
ومع إن الكاتب انقطع عن العمل السياسي ضمن تنظيم الحزب الشيوعي العراقي بعد ثورة 14 تموز 1958بسنوات، الا انه لم ينقطع عن أداء دوره الوطني في مساندة الأحزاب العراقية الوطنية ومحاربة الدكتاتوريات والالتزام بالفكر التقدمي والديمقراطي.
واستطاع الكاتب سالم عبيد النعمان أن يخلط ذكرياته الشخصية ونشاطه السياسي ضمن فصول الكتاب خلطاً متجانسا وأنيقا مما زاده متعة ورصانة، وحين يسرد كاتب مثل سالم عبيد النعمان الذي عرفه القضاء العراقي عضوا فاعلا في محكمة التمييز، وهي أعلى صرح قضائي في العراق، بالإضافة الى سمعته ونزاهته في سوح العمل القضائي حين كان محاميا، مع التزامه الوطني ومواقفه المشهودة في الدفاع عن المناضلين قبل أو عند إحالته على التقاعد، فأن هذه الذكريات تصلح لأن تكون مرجعية يتم الاستناد اليها في كتابة التاريخ السياسي العراقي، بالنظر لما يتمتع به الكاتب من حيادية والتزام في إيصال الحقيقة التي طالما ناضل من اجلها في العمل السياسي والقانوني وفي سوح القضاء. وأذ يركز الكاتب على الدور المهم والفاعل ليوسف سلمان فهد في تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934، وعند إكمال بناء الحزب تنظيميا في الكونفرنس الأول 1944، أو في صياغة منهاجه وميثاقه الوطني في المؤتمر الأول عام 1945، الا انه يلتفت بذكاء وثقة ليؤكد، إن البعض قد يرى تقييمه لا يخلو من مبالغة لدور الرفيق فهد، ليتم اتهامه بعبادة الفرد التي هي غريبة عن الماركسية، فيشير الى إن هناك إعجابا يظل العقل متحكما فيه أمام انجازات الموهوب، وفي هذا الأمر إشارة واضحة الى ما يكنه الكاتب سالم عبيد النعمان الى رفيقه وقائده فهد، ويمكن أن ننتقد الكاتب بالرغم من صراحته حيث انه لم يسجل السلبيات التي رافقت عمل فهد السياسي، أو انتقادات الكاتب لشخص فهد، لكنه يحسم الأمر مع الإقرار بوجود إعجاب مفرط تتغلب فيه العاطفة على قوة العقل، ويعود ليؤكد بأنه أشار الى بعض الأخطاء غير الجسيمة التي وقع بها فهد، وأتى عليها في سرده للأحداث، مبررا الوقوع في تلك الأخطاء من خلال افكار فهد التي ظلت محكومة ببيئة العراق الاجتماعية التاريخية، وحركة جماهير الشعب وسجاياها التي تميزت بها وتعلق بها، وتحرى عن متطلبات علاجها وتقدمها، وكانت تلك جميعها دافعا لإظهار تلك الأخطاء ووجوب الرجوع عنها وتصحيحها.
بالإضافة الى غمط دور القادة الآخرين، ومحاولة الكاتب تجاهل الدور المتميز للقائد حسين الشبيبي أو لزكي بسيم أو العديد من القيادات الوطنية الموجودة معهم سواء في التنظيم أو في السجن، وربما يعود الكاتب ليؤكد إن كتابه عن دور فهد في تأسيس وإعادة بناء التنظيم، الا إن الأمر لا يعفيه من نقل الصورة كاملة. الكتاب يشكل مساهمة أكيدة تلقي الضوء على مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، وما كان يدور بين قادته في الأربعينات ضمن احلك الفترات التي مروا بها في سجون العراق، مع ما رافق تلك الأحداث من تطور في مسار الحزب الشيوعي العراقي وانتشاره الكاسح بين الجماهير العراقية، مع تطور الحركة السياسية الوطنية بشكل عام.
ويتعرض الكاتب في الفصل الأول بشكل موجز الى نضال الطبقة العاملة في العراق في العشرينات والثلاثينات، مع ظروف تشكيل الخلايا الأولى للحزب الشيوعي العراقي، ودور فهد الفاعل في تلك الظروف، ثم يعرج على الخطوات الأولى التي مهدت لقيام الحزب الشيوعي وأول بيان شيوعي يصدره فهد، وممهدات تأسيس لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار، التي تهدف الى تحرير العراق من النفوذ الاستعماري وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وتأمين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وذلك بتبني مبادئ الاشتراكية العلمية وأساليبها في الكفاح، ثم تحول تلك اللجنة الى قيام الحزب الشيوعي العراقي.
وضمن الفصل المذكور يؤرخ النعمان في الصفحة (31 ) حديثه المتكرر مع عبد الفتاح إبراهيم حول تأليف اللجنة، التي تشكلت منه ومن جميل توما وعاصم فليح وقاسم حسن ويوسف اسماعيل ويوسف متي ونوري روفائيل وحسن عباس الكرباسي وعبد الحميد الخطيب، ثم يستمر في توثيق المعلومات التي كانت تسردها تلك الأسماء، فيذكر لقاءه بنوري روفائيل بحضور هنري مرمرجي، ثم مع جميل توما وعلي ياسين في الموقف العام 1959، كما يلمح للتعريف بعصبة النضال ضد الإمبريالية، وفي الصفحة ( 35 ) وتحت عنوان الحزب الشيوعي الى العلن، يسرد النعمان الأخطاء النظرية التي رافقت التنظيم الحزبي والدعاية الحزبية، الا انه يعود ليوضح دور يوسف سلمان فهد في اللجنة والحزب، وتأتي وجهة النظر تلك مدعومة بأحاديث موثقة وأحداث تؤكد وجهة النظر، وتلك ميزة يتمتع بها النعمان من خلال ممارسته العمل القضائي، حيث لا يترك وجهة النظر تطرح نفسها دون دليل أو قرينة تؤكدها.
ويأتي الباب الثاني من الكتاب حول أعادة بناء وتأسيس الحزب الشيوعي من قبل فهد، وفي مقدمات بناء الحزب بعد عودة فهد الى العراق بتاريخ 31 كانون الثاني 1938 ، وبعد توقف الحزب عن العمل كحزب له كيانه بالنظر لتشتت أعضاءه منذ أواخر خريف 1935 ، ويتعرض لمواقف الحزب من الحرب العالمية الثانية ومن الحرب العراقية – البريطانية مايس 1941، ومن معركة الجيش الوطنية ومن الاعتداء النازي على الاتحاد السوفيتي، وفي الفصل الخامس يتعرض الى الانشقاق داخل الحزب والذي عرقل بناءه ونموه، ثم يعود ليبرز جهود الرفيق فهد في بناء الحزب مع بروز دور التيار الإصلاحي داخل الحزب، والانشقاق الأكبر الذي قاده عبد الله مسعود والذي استند على حجج غير عملية وغير ناضجة في الظرف الذي مر بها الحزب في مرحلة البناء في تلك الفترة. ويخصص الفصل السادس الى قيادة فهد للحزب الشيوعي العراقي في العام 1943 ودعوته الى تحديد مهام الحزب في مرحلة الحرب ضد الفاشية، والصمود أمام الهجوم الرجعي، والسعي لتقوية تنظيمات الحزب وتوسيعها وامتدادها الى انحاء القطر كافة، والعمل على تأليف النقابات العمالية لكافة المهن، ودعوة جميع القوى الوطنية والديمقراطية الى تنظيم نفسها في احزاب ورفع شعار ((قووا تنظيم حزبكم. قووا تنظيم الحركة الوطنية)).
وفي الفصل السابع يتعرض الى المسيرة النضالية للحزب في العام 1944، بالنظر للأهمية النضالية في تلك الفترة، وطرح شعار حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية، حيث صدر كراس بهذا الصدد في شباط من العام 1944، وقدم لهذا الكراس الشهيد حسين الشبيبي وحمل أهمية تنظيمية وتعليمية لأعضاء الحزب. وفي الفصل الثامن يتطرق الكاتب الى مآثر يوسف سلمان فهد في مؤتمرات الحزب وفي استكمال وترسيخ أسسه النظرية وقواعده التنظيمية، وفي الفصل التاسع عن المؤتمر الأول للحزب الشيوعي، وفي سياق ملخصه لتلك الأحداث يورد الكاتب أحداثا ووقائع مهمة كان الكاتب طرفا في العديد منها.
وفي فترة مهمة من تاريخ العراق والحزب الشيوعي نمت فكرة تأليف حزب سياسي وطني شعبي جديد ويكون حليفا للحزب الشيوعي، ويسرد النعمان بدايات تأسيس الحزب الذي تشكل من عبد الجبار حسون جار الله وحسين محمد الشبيبي ومحمد علي الزرقا ومحمود صالح السعيد ومحمد حسين ابو العيس ويوسف عبود ومحمد علي يوسف ومحمد خلف وسالم عبيد النعمان، ثم أنضم آخرون محل من انسحب كيوسف عبود ومحمد خلف.
وفي الصفحة 146 يتعرض المؤلف الى عصبة مكافحة الصهيونية ودور فهد في تأسيسها وتوجيهها، والتأكيد على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. وفي الفصل العاشر تواصل اقتحام الميدان السياسي من قبل الحزب، وعن مساعي الحزب للمشاركة في لجنة الدفاع عن الشعب الفلسطيني، غير إن الكاتب سالم النعمان يسجل نقده لمواقف الحزب ازاء القيام بمظاهرات يوم الأضراب العام المجتمع عليه من قبل لجنة الدفاع ، لتقاطع التظاهر مع الاضراب مما يكفي للقطيعة مع اعضاء تلك اللجنة في نقد ضمته الصفحة 182- 184 . وفي سرد لحوادث كان الكاتب من بين شهود احداثها يسترسل النعمان في تفاصيل دقيقة لما قامت به الرجعية من هجوم ارهابي على الحركة الوطنية، ومظاهرة 28 حزيران 1946، وشجب الأحزاب المجازة لذلك الإرهاب، ومحاكمة اعضاء الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني ووقائع تلك الجلسات، وإدانة القضاء العراقي لتلك المذبحة ومسببيها وموقفه الوطني المشرف ازاء التحقيقات وإدانة المسؤولين الحكوميين عنها.
وفي الفصل الثاني عشر عالج الكاتب الأخطاء التي رافقت المسيرة وسبل تصحيحها ودعوة الرفيق فهد العودة الى احياء شعار الجبهة الوطنية الموحدة. وضمن صفحات الفصل الرابع عشر عن الحياة في السجن، ونعتقد إن هذا الفصل الذي يسرد تفاصيل مهمة من حياة الكاتب، فأنه يتعرض الى تفاصيل التحقيقات مع يوسف سلمان وزكي بسيم وحسين الشبيبي بالنظر لمعايشته الشخصية والدقيقة معهم، ثم فترة صدور حكم محكمة جزاء بغداد الأولى، ويسرد الكاتب أسرار وتفاصيل مهمة عن دور المسؤولين في ترتيب الحكم ليصدر بالإعدام، مع توثيق الروايات وأشخاصها في روايات موثقة وحوادث يحتاجها التاريخ العراقي الحديث.
ثم يتطرق ايضا الى الأيام التي قضاها الكاتب مع فهد ورفاقه في سجن الكوت قبيل تنفيذ حكم الإعدام، وفي الفصل السادس عشر عن وثبة كانون الثاني التحررية عام 1948، وموقف فهد وأيامه الأخيرة في السجن وصوره عن شخصيته ومواقفه الوطنية ودوره الريادي كقائد في احلك الظروف. وشكلت فصول الكتاب اسهاما مهما في مرجعية توثيق الأحداث التاريخية لمرحلة من مراحل الحياة السياسية العراقية، كما الحق الكاتب ملحقا بالكتاب ضم في القسم الاول منه رسائل فهد الى المركز استلها الكاتب من موسوعة التحقيقات الجنائية. اما الملحق الثاني فقد ضم صورة فوتوغرافية لجريدة كفاح الشعب العدد الثاني آب 1935 . واكب سالم عبيد النعمان الحزب الشيوعي العراقي في مرحلة مهمة من مراحل بداياته، ورافق بحكم عمله كحقوقي مؤسسه وقائده يوسف سلمان وأغلب القيادات الميدانية، ونشط ضمن اسهامات متعددة في عمل الحركة الوطنية العراقية، وبات اسما معروفا، والتزم فترة غير قصيرة بالحزب، وبالرغم من ابتعاده عن الالتزام تنظيميا الا انه بقي ملتزما بمبادئ الحزب وأهدافه وافكاره فكريا واخلاقيا، وانعكس فكر الحزب واخلاقه على شخصيته المتوازنة، وفوق كل هذا بقي النعمان وفيا لتلك الحقبة التي رافقت حياته ما جعل العديد ممن عمل على توثيق تلك الفترة الى الاعتماد عليه في توثيق الأحداث، وبقي النعمان محترما من قبل القوى السياسية لأمانته ودقته وإخلاصه في سبيل قضية الشعب العراقي، وبقي النعمان محسوبا على الخط اليساري الوطني متمسكا بدفاعه عن الديمقراطية للعراق، كما بقي النعمان يحتفظ بذاكرة حية في أسماء من مر خلال فترة عمله السياسي، وتابع تلك الأحداث والأسماء متابعة أمينة ليوثقها ضمن ذكرياته، لكن تفانيه وتواضعه دفعه ليسرد كل تلك الأحداث ضمن كتابه اعادة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ودور فهد المهم في اكمال بناءه.
والنعمان الذي رحل عنا قبل شهور تمكن أن يساهم في توثيق الدور السياسي لقيادات تلك المرحلة، مساهمة منه للتاريخ العراقي الذي يثق بحياديته وصدقية الحوادث التي يسردها، في فترة من فترات عمل الحركة الوطنية في العراق، باعتباره كان احد قادتها والمتلامسين مع مصادر قراراتها، مع ما يسجل له من دقة في التركيز على اسماء وشخصيات غابت عنا منذ نصف قرن، ولذا فأن شخصية مثل شخصية سالم عبيد النعمان بما تحمله من توازن وتواضع، وبما تراكم في عقله من معلومات عن تلك الشخصيات تمكن أن يطرحها للبحث والتاريخ، مع إننا ندرك الجهد الذي يتطلبه مثل تلك المهمة، الا إننا ندرك ايضا إن النعمان وبما عرف من التزام وطني خطى تلك الخطوات بثقة عالية، لنتعرف نحن الجيل الذي توسم أن نقرأ عن تلك القيادات بأقلام صادقة وحيادية مثل قلم القاضي والمناضل سالم عبيد النعمان الذي رحل عنا بعد ان تمكن ان يخط اسمه متوهجا بين اسماء الذين اعطوا للعراق.