هي شجرة حقاً ومنها ابتدأت أوراق الدنيا الدنيا تمد حضارتها، وهي شجرة حقاً ففيها يتعمد الأنسان بطهارة الماء الجاري حيث تغفو على نهر الفرات وتحيط مياه الأهوار بخاصرتها، وهي شجرة حقاً فمنها قامت أول الملاحم وأول الثورات على الظلم والطغاة، وفيها أيضاً اكتشف الأنسان النار وكتب أول حروف الكتابة على الطين وورق البردي، ومنها أبتدأت أهازيج الفلاحين في هور الغموكة والحمار والجبايش والفهود، وهي شجرة حقاً حين تضلل العراق البهي بفيها وبأوراقها الناصعة اللون العراقي الزاهي، وهي شجرة حقاً بأصالتها وعطائها وقوتها ومتانة جذورها وامتداد جذور نخيلها مسافات بعيدة بحثاً عن الماء والطيب والحلاوة، هي شجرة حقاً تتجمع الأسماك والطيور آمنة وسط القصب والبردي في جرفها وعلى أطراف مياهها، وهي شجرة حقاً محملة بالعبق والعطر والبهجة العراقية الأصيلة.
هي شجرة حقاً ففيها كانت حدود النهر والبحر ومنها تبحر السفائن ومنها تبتدأ اليابسة لأرض يقال لها أوروك، وهي المدينة التي ساهمت منذ بداية تكوينها في مفاصل الحركة الوطنية العراقية وبروز الوعي الفكري والسياسي فاعطت قامات في العمل الوطني، وشجرة متواضعة حقاً ساهمت بفقرائها رفد الجيش العراقي بالرتب الفقيرة، وساهمت بأولادها في بناء العراق النقي العريق.
هي شجرة حقاً أعطت العراق الغناء الريفي الجميل ومنحت لنا داخل حسن وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم وحسين نعمة، وملأت لنا أجواء العراق بالغناء والفرح والمحبة، وفي أهوارها ومزارعها تجيش أرواح الفلاحين والرعاة بالغناء الأصيل وتحلق بين القصب وخرير الماء، وفي أهوارها تحج الطيور وتأبى الأسماك أن تغادرها وتسكن فيها الفقراء فوق جبايش القصب العائمة فوق الماء فتتشكل مدن طافية لاشبيه لها في الدنيا يضللها القمر ويلاطفها سكون الماء وتناغمها النجوم، وهي شجرة حقاً حين تواصلت تعطي من فنانيها وتوزعهم نوارس فوق سماء كل مدن الدنيا ولاتبخل على الدنيا حين تطرز جيدها بفلذات اكبادها من مطربين وموسيقيين ورسامين وشعراء وممثلين ومفكرين وقادة، وهي التي أعطت العراق كل هذه القيادات من السياسيين والمفكرين الوطنيين ومن رجال الدين، وهي شجرة حقاً طرزت التاريخ العراقي بقوافل الشهداء وضحايا الإرهاب، وهي شجرة حقاً شكلت معلماً من معالم المدن في الدنيا فبدت زقورتها وأطلالها شاهداً على أبدية العصر، وشكلت خيوطاً من الذهب الخالص على صدر الزمان، وكانت هذه الشجرة المضيف والأمان والبيت الواسع والصدر الرحب والقيم العراقية الجميلة والملاذ الذي يلجأ اليه الملهوف، والمدينة التي لايهدأ فيها الليل فيسكر معها على ضفاف البدعة أو عند شواطيء الفرات الذي يطرزها الى نصفين، أو في بدايات أهوارها التي تعانق المدن الآخرى.
هي شجرة حقاً كانت دائماً الشوكة التي تثير الحنق في قلوب الذين يريدون الشر بالعراق، والذين يكرهون ويشتمون فقراء العراق فيطلقون عليها (الشجرة الخبيثة) دليلاً على إلصاق صفاتهم وصفات اهلهم عليها مع انها شجرة عبقة معطاء وزاهية وباقية متميزة ومتباهية بعطاء أولادها وأهازيج أشعارها وألتواء أبلامها وصفاء سمائها وسحنة قارها. وهي الشوكة التي اقضت مضجع الطاغية وأنتفضت عليه كلها فأراد لها السوء كله فرد الله عليه سوءه وأذله حين أرتفعت الناصرية شموخاً وهيبة.
هي شجرة لكنها ممتلئة بالمحبة والأصالة والقدرة على التجدد بعد كل مأساة أو كارثة أونازلة تحل بها وبأهلها الطيبين.
هي شجرة ممتدة الجذور تضرب في اعماق التاريخ الأنساني، فتبدأ مع بداية شرارة النار الأولى وتدثرت في أحرف الكتابة المسمارية فوق أوراق البردي وعلى تجاعيد الطين المفخور، وضمت بين جنبات ترابها ورمالها سيوف الفتح ومعارك ذي قار وبقايا السفائن التي غرقت وصارت حطباً وقلائد الملوك وأختامهم الأسطوانية وحليهم المدفونة معهم.
هي شجرة حقاً وطيبة الأصل والفروع وخبيث من يطلق عليها الفاظ لاتليق بها وتحل عليه لعنة العراق. صافية كمياهها وعاشقة كشارع الهوى وحافظة لشعرها وعهودها وسلسة كقصائد شعرائها الشعبيين، ملونة كما لوحات الرسم الطبيعية الممتلئة بالألوان الحارة المبهجة، زاهية ومتباهية كما يخلص ابنها لخدمة العراق، وبسيطة وطيبة كبساطة أسواقها وجميلة رغم إهمالها عمداً من السلطات التي حكمتها والتي رحلت كلها الى ذاكرة التاريخ وبقيت الناصرية أسماً خالداً وشامخة شموخ القصب النابت في اعماق الهور والمتطلع نحو السماء يريد أن يعتلي نجومها.
أنها الناصرية التي قامت فوق أرض آورالموغلة في القدم والتي مجدها سيدنا أبراهيم وتعمد فيها فتقدس مائها وتقدس اهلها وطابت طيورها الحرة حين تلم الناصرية هجرتها فتصير مركزاً لتجمعها من كل أطراف الدنيا، وتعطرت نسائمها وأشتد قصبها وأزداد فقرائها كرماً وتميزاً.
انها الناصرية الشجرة العراقية النقية الأبية العبقة التي نعتز بها والتي تعطي ولا تأخذ على مر الزمان.