الصور التي ترفعها دوائر الدولة لا تدخل ضمن القوانين الملزمة للناس، والعديد من الدول المتقدمة لا ترفع صور زعاماتها ولا رؤوساء جمهورياتها ولا ملوكها، وبهذا فهي متخلصة من قضية صور الرئيس التي تلتزم الدول الفقيرة والخائبة برفعها فوق رؤوس موظفيها. وقضية تأليه الزعيم لا تمارسها سوى البلدان المتخلفة، وهي تضفي هالة من القدسية والعصمة على الرئيس او الزعيم، وتعمد إلى إحاطته بمجموعة من وعّاظ السلاطين الذين تكون وظيفتهم ذر الرماد في عيونه وتعمد إدخاله في تيه من الدجل والكذب بحيث يعتقد فعلا انه قدر الأمة وهدية الله لها وأن الله اختاره لهذه الوظيفة، وان قدراته خارقة وهو غير ذلك تماما. وتدخل أفواج من المجرمين الذين اقترفوا الجرائم بعد إدانتهم من قبل المحاكم المختصة إلى السجون، ولا تلبث تلك المجموعات ان تخرج بعد انتهاء محكوميتها او بعد صدور قرارات العفو، في حين يبقى من يشتم الرئيس او يتعرض لصورته او تماثيله او جدارياته في السجن الى عشرات السنين او ضياع ما تبقى له من عمره جراء تلك الأفعال التي لا تغتفر في دنيانا وقوانيننا.
لا يحق للناس أن تنتقد الرئيس في بلداننا، ولا يحق للناس ان تعلق على صورته، ومن يرشق الزعيم بالطماطة ترشقه قوات الأمن وحرس الرئيس بالرصاص الحي، ومن يريد إلقاء نكتة على الرئيس يلقيها همسا ويضحك في سره، فإذا انكشفت النكتة يحال قائلها ومن يضحك لها إلى المحاكم الاستثنائية لتحكم عليه بأقسى العقوبات وفوق كل هذا يعلمونا بان نطيع الحاكم ونمتثل لأوامره ونشبع من ظلمه ونتوكل على الله لأنه ولي الأمر الواجب طاعته.
نعلق صورة الرئيس في صفوفنا الابتدائية وفي رياض الأطفال، فيلتصق بعيون أطفالنا الصغار منذ الصباح، فيصادفنا في أوله وطيلة الدروس، ثم ينتقل معنا إلى البيوت والشوارع، ثم ينتشر في دوائر الدولة، وقد يخرج من باب الدائرة الرسمية ليطل على الشارع العام، ويطل علينا في الصحف اليومية في صفحاتها الأولى فينقض على ما تبقى من وقتنا في جهاز التلفزيون أن كان قد بقي من الوقت، فيكون يومنا مع الرئيس يطبع تقاسيم وجهه وسحنته في تلافيف دماغنا، فتكون صورة الرئيس مطبوعة في عقولنا منقوشة بإطار من الرهبة والخوف والخشية، فالرئيس معبود الجماهير المقدس الذي تنتجه الإرادة المرعوبة المستكينة والخانعة له، فيعتاد على نمط السمو والعلو، والاختلاف عن نمط إنتاج فعل البشر، فقد عبر إلى مرحلة أخرى لن يماثله بعد احد ولن يزاحمه احد، ولم يشابهه احد، ينتقد ولا ينقد، تذهب العديد من الناس ويبقى هو، صورته المعلقة فوق رؤوسنا تعبير عن خضوعنا له في زمن لم يعد احد خاضعاً لأحد.
بيننا وبينه شروخ وحواجز ورشاشات وحمايات، ومع ذلك فإن خطاباته يجب أن نحفظها عن ظهر قلب، وأن نصدق كل ما فيها من كذب ودجل ووعود وأحلام، رغم معرفتنا بكذبها وعدم صحتها، وان تكون تلك الخطابات دروسا لنا نتعلم منها أسس الحياة ودروبها!!
ويقول المثل العربي تسعة أعشار الإيمان في طاعة السلطان، تسعة أعشار وصورة الرئيس التي تحرص الدولة على تعليقها في دوائرها الرسمية تبقى نظيفة وضمن إطار وزجاج لا تلبث أن تتغير بتغير الرئيس، ولا يلبث الناس أن يرموها في سلال المهملات عند إقصاء الرئيس أو هروبه أو رحيله قسرا أو بموته أو بانقلاب عسكري عليه. ليس غير منطقتنا الفقيرة من تعتبر الرئيس فوق مستوى البشر، فتحيطه بالأسرار والحرس، وتوفر له كل ما يتمناه ، ويباح له كل ما لا يتمناه، ومن طرائف المنطقة العربية أن تشمل الرئيس بصلاحيات وحقوق لا تتوفر للمواطن العادي ولا في خياله المتواضع. نعلق صورة الرئيس وننتظر انقلابا عسكريا يستعجلنا لنرفع صورة الرئيس الجديد، لنرمي السابقة في سلال المهملات مقرونة باللعنات، ونعلق صورة الرئيس بمواصفات تطلبها المرحلة السياسية،
وتتغير مواصفات الرئيس بتغير واختلاف المرحلة والظروف، ولهذا فإن إطار الصور الذي يحتوي على صورة الرئيس متين يسهل معه تغيير ما بداخله من صورة. رضا الرئيس عن انتشار صوره في مداخل المدن ومخارجها، وأمام أبواب الدوائر الرسمية وفوق رؤوس موظفيها وطلاب المدارس واضحة وملموسة، فهي لن تكون إلا برضاه وموافقته، إن لم تكن صريحة فبالسكوت والاستحسان.
ولأننا تعودنا أن نرفع الرئيس درجة فوق هامات الناس فنخرجه عن الرمزية ونعتقد فيه من المؤهلات والمواصفات ما لا يمكن أن نجده في غيره، ولهذا أطلقنا عليه لقب القائد والرئيس والضرورة وقائد السفينة وصانع الانتصارات وباني مجد الأمة وشرفها ورافع رأسها وحامل أعبائها و(أبونا) ورمز عزتنا وعصرنا، وحين نبحث عن غيرنا من الأمم التي تعاملت مع زعمائها ورؤوساء جمهورياتها بعقل وباعتبارهم بشراً يعملون ضمن منظومة السلطة التنفيذية يؤدون واجبا رسميا ووطنيا، فهو في كل الأحوال مواطنا يعمل موظفا ضمن السلطة التنفيذية، ويقبض راتبه ومخصصاته جراء تلك الخدمة وفقا للقانون، ويستحق الراتب التقاعدي في حال توفر الشروط القانونية، وحتى في حال عدم توفرها أليس هو الرئيس المفدى؟؟