مامن ديانة سماوية الا ولها جذور في الأرض العراقية، ومامن عقيدة أو دين الا له أساس وامتداد من أرض العراق، ومع كل تلك الأديان والحركات والمذاهب والنحل تبرز الدعوات للمحبة والخير والسلام، ولا تجد في كتب أو تعاليم كل الأديان والعقائد الا الدعوة للمحبة والتآخي بين الناس. وليس فقط الديانات والمذاهب والعقائد ما تتجمع في العراق، فقد بات تجمع القوميات وتعدد اللغات خليطا يميز المجتمع العراقي ويجعله يتباهى بتلك التجمعات العشائرية والقبلية التي حكمتها القيم والأعراف، وصاغت لها قوانين تلتزم بها ضميريا وعن قناعة تامة، وأفرزت محكمين من كل المذاهب والقبائل الفيصل في أحكامهم العقل والخبرة والتبصر.
ومرت على ارض العراق نكبات ومصائب طوال وقاسية ومرة، غير انه صبر عليها وعبرها وتجاوز محنتها، وقام سليما معافى يتنفس بعيدا عنها هواء العراق النقي، ومرت على ارض العراق سنابك خيل الاحتلال التي صبغت مياه دجلة بدماء العراقيين، مغول وفرس واتابكة وخرفان اسود وابيض وعثمانيون وانكليز وامريكان غير إن العراق ثبت في مكانه ومعه أهله، ورحل الاحتلال الى أهله. ومر بتاريخ العراق حكاما قساة وغلاظ القلوب وأمتهنوا القتل وتلذذوا بذبح العراقيين، غير إن الزمن سجل أنهم رحلوا جميعا وكل منهم يحمل سفر افعاله وسلبياته وآثامه، وبقي العراق وأهله وتأريخه. حقب متعاقبة وازمان مختلفة وحكام، ومن سره زمن ستسوءه ازمان، وتحمل العراق فقره وهو الغني، وجوعه وهو الذي يفرش روحه ليطعم الجياع، وتحمل العراق عطشه وهو يروي الناس، وتحمل برد الشتاء وزمهرير الصيف، وهو يمد الناس بثروته النفطية، وتحمل العراق بطش حكامه وهو الوديع الصابر المجاهد القنوع، وتحمل العراق ما يقتطع من جسده وهو يلتزم القناعة بأن الغد سيصير احسن من اليوم، وتحمل العراق نكران الأخوة والأقارب وظلم ابناء العم، وتحمل النعوت والصفات التي لا تليق به من اخوة كان يعطيهم لقمة اطفاله وثرواته التي يفتقر اليها، وتحمل العراق تزوير تاريخه وتلويث سمعته وهو النقي الطاهر.
وتحمل العراق مرارة العلقم على مضض يمني النفس بأن تشمله رحمة الله وتحل العقول، فتسنح له فرصة استعادة الأنفاس وترميم الحال، في أن تحل لحظة العقل والتعقل في رؤوس الحكام والساسة.
وصار الذي صار، وجرى ما كتب على العراق من خطوات، ورحل صدام ومعه سلبياته التي اقترفها على ارض العراق وبحق ابناء العراق، وكان سيرحل حتى لو لم يتم الحكم عليه بالشنق، فالكل راحل لامحا ل ولن يبق سوى وجه الله كما يقول الشاعر: أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا وآن للعراقيين أن يلتفتوا لحجم الخراب والدمار الذي يحل بهم، وآن لهم أن يدققوا في محنتهم وحزنهم دون استثناء، وخراب وموت، وجيوش أجنبية تعتلي صهوات الدبابات تجوب الشوارع، وتسحق القلوب والأرصفة، وتدوس الكرامة وجدران البيوت الفقيرة، وقوانين استثنائية وظروف طارئة، ومامن حكيم ينظر بعين العقل فيوحد القلوب والضمائر ليستعيد العراق عافيته، وينهض مباركا دون بساطيل ودون لحى ارهابية ومفخخات وبهائم، ومامن عقل يحتكم للضمير يطابق القلوب ويوحدها ليستعيد العراق نقاوته وكرمه وأمانه وقوانينه وأعرافه، ومامن رشيد يفتش عن قلوب تخشى على دماء الناس وأعراضهم وآمنهم وحياتهم وحلالهم قبل إن ينشر الغل والحقد المتجذر في روحه بين الناس.
أين صار حكماء العراق وواضعي قوانينه العشائرية والمتمسكين بأعرافه؟ أين صار الكبار ممن تحلوا بالخبرة والصبر والحكمة التي نفتقدها اليوم؟ أين كل هذا والعراق يزف يوميا قوافل من المصلوبين والمشنوقين والمذبوحين من الفقراء والأبرياء؟ كيف سولت لكم انفسكم أن تدعون رقاب العراقيين تذل بأيادي أجنبية، المحتلة منها الأجنبية والأرهابية العربية؟ وكيف سولت لكم انفسكم الصمت والسكوت عما يجري أمام أنظاركم وكأنكم تنتظرون خلاص اهل العراق بالموت اليومي، وقوافل الناس الهاربة والنازحة والمهجرة وأنتم تتبادلون الاتـهامات، وتتقاذفون القنابل الطائفية والمصلحية والنفعي تتقاتلون على المناصب السيادية والعراقي لا يعرف السيادة، وتتقاتلون على مراكز السلطة والعراقي يركض خلف قنينة الغاز، آما آن لكم أن توفروا ما يحفظ للناس كرامتها ؟
وآما آن لكم أن تعرفوا إن صفيحة النفط التي يفتقدها الفقراء في الشتاء الحلم الذي يراود العراقي الذي انتخبكم!! وآما آن لكم إن تعرفوا أن العراقي لم يعد يفكر بالماء والكهرباء مثل باقي البشر، بل صار يدعو الله أن يهديكم لتوفروا له الآمان. أين صارت النخوة والشهامة والمروءة التي كانت تحكم اخلاق العراقيين؟ وأين صارت الجيرة والمحبة والدم الذي لا يصير ماء؟ كيف تمكنت الوجوه المشوهة أن تدخل بين أضلعكم وتتسلل الى غرف نومكم، وتدفعكم للقتل واستباحة الآخر؟ كيف وانتم تستمدون حكمتكم من خبرة التاريخ المليء بالمرارة وتزعمون إن عهد الطغاة والدكتاتوريات قد رحل، كيف صرتم طوائف تنتصرون لطائفتكم ضد اخوتكم؟ وكيف سمحتم للدخلاء أن يذبحوا رقاب فلذات اكبادكم واخوتكم الذين تتباهون بهم أمامكم؟ وكيف مضى على العراق من عمره سنوات بعد رحيل من كنتم جميعا تريدون رحيله وشطبه من تاريخ العراق الجميل، وانتم لم تتفقوا على موقف واحد، تتقاذفكم دول الجوار وتلعب بكم المصالح الدولية، فتبيعون دينكم بدنياكم، واهلكم وشعبكم بما تحصلون عليه سرا وعلانية. والى متى ستستمر لعبتكم وأهل العراق لاحول لهم ولاقوة، فبأيديكم السلاح ومعكم الميليشيات والعصابات، وكنزتم الأموال، وماهي الا ساعة من الزمان لن يكون لكم وجود في هذه الدنيا سوى ما كسبت اياديكم، وستمضي الأيام سراعا، وها قد مضى على نهاية حكم صدام سنوات لم يجن منها العراق سوى المزيد من الخراب والدم المسفوك، وقوافل من البهائم المستوردة التي تريد قتلكم دون استثناء.
هذا وطن يستباح العقل به، وتموت المروءة بأمر اللاعبين في السياسية مهما كانت اسماؤهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم ولغاتهم، وهذا وطن أتفقوا إن تموت الشهامة والنخوة فيه وأن يصير كرة دموية ملتهبة بأيدي من لاعقل لهم ولامروءة، وأن تصير الأيام مباراة يتقاذفها الناس بأرجلهم وزخات الرصاص لأطفاء نارا شبت في قلوب بعض منهم دون أن تنطفيء.فاللهيب في حشاشة الروح أين كلمة المحبة التي ننتظر؟ وأين الوعود التي نسمعها منكم في توحد الضمائر؟ وأين كرامة العراق بالأتفاق على رحيل القوات الأجنبية؟ وأين ما تعتقده الناس الأهم في مشاريع المستقبل؟ وأين الكلمة الطيبة والعفو عند المقدرة؟ وأين الحس الوطني في عدم التفريط بأخوتنا واهلنا؟ وأين المسامحة والمصالحة؟
سنوات عجاف ايها الناس، هي جزء من تاريخ وعمر العراق متى سيتبصر اللاعبين منكم بخطورة لعبتهم؟ ومتى تدركون انكم تدحرجون العراق الى الهاوية بكل إصرار؟ ومتى سيتبصر الناس لعمق الشرخ الذي يتعمق يوميا في العراق وينتشر كالوباء؟ ومتى نستعيد العراق طاهرا نقيا لكل العراقيين؟ ومتى يشعر الإنسان في العراق انه في بلد يضمن الحق والحقوق ويتسابق حكامه وأحزابه لخدمة الإنسان، وتوظف الأموال والثروات لخدمة الإنسان، وأن تختلف الأحزاب والتجمعات من اجل إن تجد طريقا لخدمة الإنسان، وان يتم توظيف الدستور والقوانين والدولة لخدمة الإنسان. كلمة المحبة وتوحد الضمائر والقلوب ما نحتاج ونشعر أنها الغطاء الذي يظلل سماء العراق النقية، وكلمة المحبة ما يعيد للناس الامان والتصافي والتوحد الذي لن يكون العراق بدونه.
ورحم الله الجواهري الكبير حين قال:
الا هل يعود الدار بعد تشتت ويجمع هذا الشمل بعد تفرق
وهل ننتشي ريح العراق وهل لنا سبيل الى ماء الفرات المصفق
فمتى تختلي الناس مع انفسها وتفكر في ما سيصير اليه الحال وماصار؟ والى اين والعراق يمشي بعكس عقارب الزمن، ويعود القهقرى وتتهدم الأسس التي ترتكز عليها الحياة في هذا الزمان، ومتى يتم ترميم الخراب واللحاق بدول الارض؟ ومتى يتم البناء الجديد الذي كنا نحلم ونناضل من اجله؟ متى ترفعون الكراهية والأحقاد من مناهجكم ومن نفوسكم؟ ومتى تدركون إن العراق لكل العراقيين لايهمش فيه احد ولايظلم فيه أحد ولا يشطب فيه أحد؟ متى ستحل الكلمة بدل المفخخة ويصير الحوار بديلا عن الغدر؟ كيف لنا إن نفهم إن عصر حقوق الإنسان ليس بالكلمات الطنانة والرنانة، وإنما بالفعل والأعتقاد والقناعة؟ كيف لنا إن نفهم إن ما يحدث اليوم من تهاتر وأتهامات وصراخ لايبني دولة ولاينصر أحدا على الأخر إنما سيقزمكم إمام البشر ويجعلكم اصغر مما تتصورون.
وكيف لكم إن تعرفوا إن قتل الشيعي أو السني أو المسيحي أو المندائي أو الأيزيدي أو الزرادشتي إنما هو قتل للأنسان، وجريمة نكراء لاتقرها الشرائع والقوانين؟ وكيف لكم إن تعرفوا ان هذه الجرائم لاتبني عقيدة ولاتحمي المذاهب ولاتنصر الأديان.
بالمحبة والتسامح والسلام والكلمة السواء، بالكلمة الطيبة والحوار والإقرار بحقوق الإنسان والاعتراف بكرامته هي ما يعوزنا لنرمم العراق ونعيد البناء، وهاهو العراق يمسح دموعه ويدفن فلذات كبده ويقف معكم منتظرا أن تحل كلمة المحبة وتنتشر بينكم لتحل ابتسامة مرة تخرج من بين ملايين الأحزان الكامنة في صدور العراقيين، فقد بتنا بحاجة ماسة لغسل أرواحنا بصفاء الأخوة ، وبتنا بحاجة ماسة لأن نضحك سوية ونخلط دموعنا، وبتنا بحاجة ماسة لأن نستعيد قيمنا وأعرافنا التي ميزت اجيال قبلنا بالمحبة.
فهل ستحل المحبة بين العراقيين؟