حلت الديانة المسيحية بأعتبارها ديانة موحدة بعد اليهودية، وبدأ انتشارها من فلسطين لتمتد الى اكثر بلدان العالم، بالنظر لاعتناق حكام وقادة تلك البلدان هذه الديانة، وحلت مكان الديانة اليهودية التي بدا انحسارها بعد ظهور السيد المسيح (ع) مع تناص ومشاركة في العديد من العقائد والطقوس
تمتد الديانة المسيحية منذ الاف السنين على مساحة واسعة وفاعلة في المجتمع العراقي ، بل كانت تعد الديانة الأولى مع اليهودية والمندائية والأيزيدية والزرادشتية التي يؤمن ويعتقد بها اهل العراق قبل الإسلام، كما كانت مثل ذلك في شبه الجزيرة العربية وكردستان وبلاد فارس، وهو امتداد طبيعي لانتشارها في كل عموم البلدان، واصبح المسيحييون (الآشوريين، الكلدان، السريان والارمن) مكون اصيل ومهم من مكونات المجتمع العراقي، وكانوا على الدوام جزء فاعل مساهم في تطوير المجتمع وبناء العراق ، مع نزوع نحو التطور والتقدم ، يملأ أرواحهم هاجس اللحاق بركب الحضارة وتطوير الذات، والمساهمة الواسعة في النشاط الثقافي والسياسي والعلمي والاقتصادي في العراق، كما كانوا معروفين دوما بانهم مسالمين وملتزمين بتعاليم ديانتهم ووصايا نبيهم، وامتزجوا في تراب هذا العراق ليعجنوا ارواحهم من طينته.
وتقوم المسيحية على الأيمان بالله، وان المسيح عيسى بن مريم (يسوع) هو النبي الذي بشر بهذه الديانة، وانه فدى نفسه مضحيا بها في سبيل ان يعطي صورة لتضحية الأنسان من اجل اعلاء كلمة الرب والحق، وقد دونت تعاليم المسيحية ضمن كتابهم المقدس (الإنجيل)، وان هذا الكتاب بقسميه العهد الجديد والعهد القديم اوحى الله الى انبيائه ورسله بكتابته، وخلال فترة التبشير بالديانة المسيحية كان ليسوع المسيح عدد من التلاميذ وكان قد اختار من بين هذا العدد أثني عشر رجلا ليكونوا رسله الى البشر، وتلاميذ يتعلمون منه اسس رسالته ويعملوا باسمه. والرسل هم كل من سمعان المدعو بطرس وأندراوس (حيث يذكر إنجيل متى ولوقا بأنه اخ لسمعان بطرس)، ويعقوب (ابن زبدي حسب إنجيل مرقس ومتى)، ويوحنا (إنجيل مرقس ومتى يذكران انه اخ ليعقوب بن زبدي) ، وفيلبس و برثلماوس (سٌميَ نَثَنَائِيلَ في إنجيل يوحنا)، ومتى (وهو متى المٌبشر وهو جابي ضرائب) ويدعى لاوي في انجيلي لوقا ومرقس.
وتوما، و يعقوب بن حلفى، وسمعان القانوي حسب إنجيل مرقس ومتى ولوقا، ويهوذا تداوس (سٌميَ تداوس في انجيلي مرقس ومتى، وهو أخو يعقوب بن حلفى حسب إنجيل لوقا)، ويهوذا الاسخريوطي.
ويؤمن المسيحيين بان الكتاب المقدس موحى به من الله، أو من خلال الروح القدس، ويحتوي الكتاب المقدس على (اسفار)، حيث كتبت هذه الأسفار في فترات تاريخية مختلفة، وكتب العهد الجديد هي الأناجيل الكنسية الأربعة انجيل متى، وانجيل مرقس، وانجيل لوقا، وانجيل يوحنا.
والأناجيل كتبت عن حياة السيد المسيح. ويؤمن المسيحيين بالثالوث المقدس، الله والأبن والروح القدس، كما يؤمنوا بأن عيسى بن مريم ( المسيح ) هو كلمة الله التي القاها الى الناس، وان المسيح قام بفداء روحه من العالم ليعود من الموت مرة اخرى .
وهناك من يؤمن بان المسيح هو الرب ، حيث يقولون بأن الرب يسوع سيعود إلى أرضنا ثانية في آخر الأيام ليدين العالم، (أعمال الرّسل 1: 11)، و(رؤيا يوحنّا 22: 12). واذا كان السيد المسيح ورسله الأثنى عشر من بشر وتحمل وساهم في نشر تلك الديانة التوحيدية، فأن الكنيسة التي قامت بعد ذلك تشكل المؤسسة الدينية التي ساهمت بعد ذلك في توسعة نشر تلك الديانة وممارسة الطقوس الدينية فيها، بالإضافة الى دورها الثقافي واللاهوتي المميز.
وتحمل من كان يؤمن بالديانة المسيحية من الاضطهاد والمطاردة والقتل وخصوصا في عصر الإمبراطورية الرومانية، وقد وظفت تلك الإمبراطورية قدراتها العسكرية والأمنية في سبيل القضاء على اتباع تلك الديانة فلم تتمكن من نزع جذوة الأيمان في قلوب معتنقيها الذين تحملوا العذاب والموت والمطاردة في سبيل ديانتهم وعقيدتهم، وازداد المؤمنين بها متحملين العذاب والموت وشتى انواع المحن، حتى تحول الزمن فأصبحت الإمبراطورية الرومانية نفسها تدين بالعقيدة المسيحية، ثم بدأ الانتشار الواسع لتلك الديانة خلال العصور الوسطى حيث انتشرت الى بلدان بعيدة في اقصى الأرض.
وحين حل الإسلام اعتبر الديانة المسيحية من الديانات التوحيدية السماوية، وأن المسيح بن مريم كلمة الله التي القاها للعذراء القديسة مريم بنت عمران، واعتبر كتابهم المقدس (الإنجيل) من الكتب السماوية، وان المسيحيين اقرب الناس الى المسلمين، وتطرق في سور القرآن الى المعجزات التي جاء بها المسيح بن مريم بأمر الله. وتعرض المسيحيين في العراق الى هجمة متخلفة وشرسة دفعت باعداد كبيرة منهم الى الهجرة خارج العراق، وقتل العديد من شبابهم، وهم ملح هذه الأرض لم تزل أديرة الحيرة (حيرتا) والفرات ونينوى شاهدا على تلك الحقبة التاريخية التي تشير الى عراقة المسيحيين في العراق، ولم يختلف المؤرخون في أصالتهم وارتباطهم بتربة العراق، والمتابع لأحداث التاريخ القديم والحديث سيجد صفحات ناصعة ومآثر إنسانية ورموز تفتخر بها الأجيال من المسيحيين الذين رسموا تلك الحياة بأرواحهم وعرقهم.
المسيحية التي كانت منتشرة في بلاد ميسوبوتاميا قبل أن يحل عليها دين الإسلام بأكثر من خمسة قرون، بقيت حتى بعد حلول الإسلام ونزوح القبائل العربية للسكن في حواضرها، حيث تفاعلت الكنيسة مع ذلك الدين الذي يلتقي بها في التوحيد، وأمتزج المسيحيون مع أخوتهم من باقي الأديان لترصين تلك الحضارة والبناء الإنساني منذ لحظات انتشار الإسلام الأولى، فبقيت كنائسهم وطقوسهم مقدسة ومحترمة، وكبرت مفاهيم وقيم التعايش السلمي ضمن المجتمع من خلال التمازج الإنساني والشعور الاجتماعي في البلد الواحد، لم يلتفت احد في تلك الحقب إلى إلغاء المساواة بين أهل الأديان الأخرى وبين المسلمين، ولم تك تلك الناس قد عرفت التفرقة والتباين بسبب القومية أو الدين، ولم يعرف لهم اضطهادا أو ترويعا مثلما تعرفه اليوم وتمارسه بعض العقليات التي فتك بها فيروس الحقد الأعمى وسيطر على نفوسها الأجرام والغلو، فعاشوا في آمان الله متمسكين بالعراق، ممتزجين بترابه وحالمين بمستقبله. وإذا كان القرن الأول الميلادي قد أكد على وجودهم وحضورهم، فإن المدائن سجلت لهم أول الكنائس فيها بعد أن اضطهدهم الرومان وحرموا عليهم عبادتهم وصلواتهم، وبقيت مدنهم الصغيرة وقرآهم الجميلة عنوانا للنظافة والأناقة وشكلا من أشكال المجتمع المسالم، ومع كل تلك العراقة والأصول العربية القديمة لم يتفاخر أحد منهم بأي منها. بعد تأسيس الدولة الأموية والعباسية وما تلاها من دول، ستجد المسيحيين في الصفوف الأولى للبناء لا يطمحون للسيطرة، ولا يجنحون لإيقاع الأذى بأحد، ولا يغدرون ولا يتآمرون، عنوان ديانتهم المحبة والسلام، وشعارهم التسامح والإيمان، فكان منهم الصناع والقادة والمترجمين والمعلمين والفلاسفة، وشهد التاريخ نهاية بشعة لكل من عمل على إيقاع الأذى بهم أو شرع في ترويعهم. وإذ يتعرض أبناء العراق من المسيحيين اليوم لهذه الحملة الهوجاء التي تنم عن تخلف مرتكبيها تدفعهم الكراهية والحقد لخراب الحياة في العراق قبل تخريب حياة المسيحيين وتهجيرهم من بيوتهم الآمنة وأماكن عملهم وسكنهم.
وإذ يسجل التاريخ الحديث اليوم بمرارة هجرة المسيحيين وفراقهم العراق على مضض، فأنه يسجل أيضا فداحة الجريمة وهول الخسارة التي يسجلها الزمن المرير على العراق حاضرا ومستقبلا.
وإذا كان المسيحيون في العراق قد لعبوا دورا بارزا في كل مناحي الحياة العراقية، فإن ذلك نابع من إيمانهم بدورهم في تأسيس حياة تليق بالإنسان في العراق، وأن استمرار هجرتهم بهذا الشكل تشكل خسارة جسيمة للعراق ، وافتقادا لطاقات وكفاءات علمية متميزة يفقدها العراق وهو بأمس الحاجة إليها.
وإذا كان المجتمع العراقي يفتخر ويزهو بتلاوينه الدينية والقومية، فإن المسيحيين ملح العراق، ولا يقع عبء حمايتهم والعمل على تكريس حريتهم الدستورية على الحكومة العراقية وحدها، بل أن المجتمع بأكمله حتى يستكمل بهاء وجوده وألوان مجتمعه الزاهية، وحتى يبرهن ويعكس إيمانه بالمساواة والحرية والأمن والكرامة الطريق الكفيل لتأسيس نظام ديمقراطي يضمن للفرد حرية الفكر والعقيدة والضمير، وهي مهمة يقع جزء كبير منها على الأحزاب السياسية وعلى منظمات المجتمع المدني، وأن يأخذ القضاء دوره في معاقبة من يرتكب بحقهم تلك الجرائم الإرهابية بظروف مشددة ليكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه ارتكابها.
من يقرأ تاريخ العراق السياسي بعقل منفتح وضمير صاف يدرك حجم التضحيات التي قدمتها شريحة المسيحيين في العراق، ومع كل تلك التضحيات الجسام، ومع العمليات الغادرة التي طالت رجال دينهم وكنائسهم ، فلم يزلوا متمسكين بغصن الزيتون والدعوة لتأسيس حياة تليق بالإنسان المجلل بالسلام والمحبة في بلدهم العراق، داعين دوما للبناء بديلا عن الهدم ، وللتسامح بديلا عن الانتقام.
الجميع مدعو لدراسة حالة هجرة المسيحيين في العراق والسعي بشكل جاد وبطرق علمية وعملية مدروسة لإيقاف هذا النزيف العراقي الذي بدأ يتسع ويكبر دون أن ننتبه حرصا منا على مداواة جروح العراق.