عد الدستور هيئة النزاهة ضمن أحكام المادة (102 ) منه بأنها هيئة مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، وهي في كل الأحوال هيئة تنفيذية باعتبارها لاتشكل جزء من السلطة القضائية، والتي حصرها الدستور ضمن أحكام المادة ( 89 ) في المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام، وهيئة الإشراف القضائي ، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقا للقانون، وللتأكيد على استقلالية السلطة القضائية فان الدستور وقبل قراءة أحكام الفصل الثالث الخاص بأحكام السلطة القضائية أكد ضمن إحكام الفقرة أولا من المادة (19) منه على ان القضاء مستقل ولا سلطان عليه لغير القانون. والمتمعن في قانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011 المعدل يجد إنها تختص بالتحقيق بجرائم الرشوة والاختلاس والإخلال بواجبات الوظيفة وتجاوز الموظفين حدود واجباتهم وحتى الجرائم الماسة بسير القضاء ضمن المواد (233 - 234 ) والجرائم المنصوص عليها في المواد 271 و272 و 275 و 276 و 290 و293 و296 من قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 المعدل، مع أن التحقيق كما نعرف قانونا يتولاه قضاة التحقيق وفقا للمادة (51 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
كما يقع ضمن أعمال هيئة النزاهة التحقيق بأي جريمة أخرى يتوافر فيها احد الظروف المشددة الواردة ضمن الفقرات 5 و 6 و 7 في المادة 135 المعدلة، وتعمل الهيئة بالتحقيق في قضايا الفساد بواسطة محققين (غير قضائيين) إلا إنهم تحت إشراف قاضي التحقيق المختص باعتبار ان الفقرة ا من المادة 51 من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل أوجبت ان يتولى التحقيق قاضي التحقيق او المحققين تحت إشرافه، غير ان الفقرة (و ) من نفس المادة أوجبت انه لا يجوز للمحقق انيمارس أعمال وظيفته لأول مرة الا بعد اجتيازه دوره في المعهد القضائي وفق الشروط التي فصلتها المادة، وبعد ان يؤدي اليمين القانونية أمام رئيس محكمة الاستئناف.
وضمن أحكام الفقرة أولا من المادة (11) من قانون الهيئة انه يحق للهيئة باعتبار ان لها صلاحية المحقق أن تقوم بالتحقيق في أية قضية (فساد)، بل وألزمت الفقرة ثانيا الجهات العسكرية وقوى الأمن الداخلي أن تودع الأوراق التحقيقية اليها متى ما ( اختارت ) الهيئة أن تقوم بإكمال التحقيق فيها. كما ان الفقرة ثانيا رجحت اختصاص الهيئة التحقيقية في (قضايا الفساد) على اختصاص الجهات التحقيقية الأخرى يضمنها الجهات التحقيقية العسكرية، والجهات التحقيقية لـدى قـوى الأمن الداخلي، ويتوجب بتلك الجهات إيداع الأوراق والوثائق والبيانات المتعلقة بالقضية الى هيئة النزاهة متى ما اختارت الهيئة إكمال التحقيق فيها.
غير ان اخطر ما ذكر في الفقرة أولا من المادة 13 من قانون الهيئة أن رئيس الهيئة يحق له حفظ الأخبارات دون عرضها على قاضي التحقيق وفقا لتقديره إذا اعتقد أنها لاتشكل جريمة أو ثبت لديه عدم صحة الشكوى، وتقدير أمر غلق الشكوى وحفظ الأوراق منوط بقاضي التحقيق، وبهذا الأمر يسلب رئيس هيئة النزاهة وهو موظف تنفيذي اختصاص قاضي التحقيق، ويشكل تجاوز فاضح ومكشوف في التدخل بعمل القضاء العراقي والتجاوز على اختصاصاته، كما ان قاضي التحقيق وهو المختص بالبت في القضية لا يمكنه المباشرة بالتحقيق مالم يشعر الدائرة القانونية في هيئة النزاهة عند استهلاله بالتحقيق، لا بل يجب أن يطلعها على سير التحقيق باعتبارها مرجعا له والحقيقة خلاف ذلك. أما الفقرة ثالثا من المادة 14 من قانون الهيئة فيشكل خرقا وشرخا كبيرا في التجاوز على استقلالية السلطة القضائية وعمل القضاة، حيث يشير ان للهيئة حق الطعن بقرار قاضي التحقيق أمام محكمة التمييز في حال رفض طلبها.
إن محاربة الفساد ينبغي ان تنسجم مع التطبيقات الدستورية والقانونية، كما إنها لايمكن أن تتجاوز على مبدأ استقلالية القضاء العراقي التي أكد عليها الدستور، وحيث ان الأمر لا يتجاوز مبدأ محاربة الفساد وقضايا الاختلاسات وسرقة المال العام، فان القضاء العراقي جدير بان يبت في أحكامه بهذه القضايا، وان يصدر أحكامه العادلة بالمتهمين ممن تثبت إدانتهم بعد توفر الأدلة القانونية المعتبرة.
ان الغاية التي توخاها الدستور من إنشاء هيئة للنزاهة تلك الظروف الحالكة التي كان عليها العراق بعد التغيير، وكان الأمل أن نتجاوز مسالة الفساد ونجتث الفاسدين، ونركن عمل الهيئة واعني هيئة النزاهة ونفقاتها وطواقمها، ونحيل الأمر الى القضاء العراقي مثلما تمت إناطة صلاحيات المحكمة الجنائية العراقية العليا به. ورد في الأسباب الموجبة لإصدار قانون هيئة النزاهة انه جاء لتنظيم عمل هيئة النزاهة وبيان اختصاصاتها ومهامها وصلاحياتها التي تمكنها من أداء هذه المهام في سـبيل رفع مستوى النزاهة والحفاظ على المال العام ومحاربة الفساد وتنظيم العلاقة بينها وبـين الأجهـزة الرقابيـة الأخرى واستناداً لأحكام المادة ١٠٢ من الدستور، أي ان مجمل عمل الهيئة لا يعدو كونه تجاوزا على عمل السلطة القضائية، او تدخلا في اختصاصاتها، وعلينا ان نحتكم للفترة الزمنية التي صدر فيها قانون الهيئة، وان نوازن بين اختصاص القضاء واختصاص الهيئة في محاربة الفساد، وان ندرك حجم الإنفاق وماتم التوصل اليه من نتائج في تضييق دائرة الخناق على الفساد والرؤوس الفاسدة، وان نجعل ثقتنا بالقضاء تتعزز يوما بعد يوم. والمتمعن في تصريح السيد رئيس هيئة النزاهة لجريدة الصباح بضرورة تأسيس دائرة قضائية متخصصة بقضايا النزاهة يكون ارتباطها الإداري بالهيئة وفنيا بمجلس القضاء الأعلى للإسراع في حسم القضايا، لاسيما المهمة منها والمتعلقة بكبار الموظفين ممن تسنموا المسؤولية في الدولة.، سيتلمس بشكل لالبس فيه ذلك التداخل في العمل القضائي الذي أكد عليه الدستور والتناقض الواضح في المرجعية. سنوات مرت على تأسيس الهيئة دون أن نلمس تراجعا في مستوى الفساد أو ردعا للفاسدين ما يؤكد ضرورة أن ترتبط الهيئة بمجلس القضاء الأعلى إداريا وفنيا. فإذا كانت الغاية الحقيقية في اجتثاث الفساد وملاحقة حالاته، فان القضاء والتطبيقات القانونية التي رسمها قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية لا يفيان بالغرض المنشود فحسب، بل يعززان من التزام الدولة العراقية بمعايير فصل السلطات والإصرار على التمسك باستقلالية السلطة القضائية واحترام القضاء العراقي، وان ندع هيئة النزاهة تتابع إتباع الأساليب التي ترفع مستوى النزاهة، وان تسعى للتنسيق بين أجهزة الدولة لنشر الثقافة القانونية باتجاه معايير النزاهة، في حال ان كان لوجودها معنى وفائدة، وان ندع القضاء يقول كلمته خصوصا في هذه الفترة الحرجة من فترة بناء الدولة العراقية.