لجأ صدام إلى عملية إضعاف القوى الوطنية من خلال تقريب وجهات النظر والتحاور مع قسم وضرب القسم الآخر، ففي الوقت الذي كان يتحار مع الحزب الشيوعي العراقي - اللجنة المركزية كان يمارس أقسى دور في التصفيات الجسدية لمجموعة الكفاح المسلح في الحزب الشيوعي - مجموعة الأهوار، مثلما كان يوعز إلى أجهزة الأمن والمخابرات والاستخبارات الضغط على قواعد الحزب الشيوعي بغية تشكيكها في تنظيمها وقيادتها، كما كان يقوم بتقريب جناح من أجنحة الحركة القومية ويقوم بضرب وتصفية الجناح الآخر، ووصل الأمر أن يعلن عن قيام تحالف رخو وهش وغير منسجم بين السلطة والحزب الشيوعي، ووفق هذا التحالف خسر العراق العديد من الرجال والملاكات الوطنية وتمت تصفيات لملاكات سياسية عراقية كثيرة، وبعد أن انفرط عقد الجبهة الوطنية وكان صدام قد ارتقى سلم السلطة الذي كان يحلم به في تسنمه منصب (نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، ونائب أمين سر القطر ومسؤولية المكتب العسكري، ومسؤولية المكتب الثقافي في القيادة القومية وعضو القيادة القومية والقطرية).
استطاع صدام أن يسيطر على البكر بعد أن استطاع أن يوظف كل إمكانيات العراق في تصفية الخصوم بما فيها الحزب الشيوعي العراقي بشقيه اللجنة والقيادة والأحزاب الإسلامية والقومية، ووصل الأمر إلى إصدار قانون يخص حزب الدعوة الإسلامي في العراق يحكم فيه بالإعدام على كل منتسب لهذا الحزب، وساهم في تصفية الملاكات القومية، واستعمل أقسى أساليب التصفية والتنكيل لملاكات حزب البعث - الجناح اليساري التابع إلى قيادة سورية.
مثلما توجه صدام لمحاربة رجال الدين الشيعة المؤثرين في المجتمع، وقام بإعدام العديد منهم وتمت عمليات اغتيالات كثيرة بطرق منها القتل بالسموم والقتل غرقاً والقتل بطرق ابتكرتها الأجهزة المتخصصة في أساليب التعذيب والموت وساهمت ألمانيا الشرقية في تزويده بالمعدات والطرق والخبراء.
واستطاع الجهاز السري لصدام أن يقوم بإنشاء أول جهاز متطور للمخابرات في العراق يضم بين مستشاريه خبراء من مجموعة الدول في المعسكر الاشتراكي التي تعاونت في هذا المجال إلى أبعد الحدود، في كل المجالات التقنية والتدريب واساليب التحقيق والتعذيب.
وجاءت العملية المزدوجة النتيجة التي خطط لها صدام بقيام ناظم كزار ومجموعته بمحاولة اغتيال أحمد حسن البكر الذي كان يشكل عائقاً في سبيل تسلم السلطة كاملة دون منافس وهي حلمه الثاني، وقد تمت تصفية ناظم ومجموعته وانتهى في هذه العملية وزير الدفاع حماد شهاب وبعض المسؤولين في حين لم يمت سعدون غيدان برغم أنه همش حتى نهايته، واستطاع صدام أن يوصل للبكر أنه لا يريده منافساً ورئيساً، وبقي البكر في الفترة الأخيرة لا يستطيع أن يحل أية مشكلة أو أن يصدر أي أمر ما لم يوافق عليه صدام حتى أحاله إلى خراعة وسط مزرعة بشهادة العديد من ملاكات السلطة ووزرائها في ذلك الوقت.
استطاع صدام ان يصفي المئات من ملاكات حزب السلطة أنفسهم ممن يتوسم فيهم القدرة على الرفض والمطالبة بحكم حزب حقيقي أو المطالبة بانفراج شعبي أو سياسي، غير أن هذا الأمر لم يستقر له إلا بطلب أحمد حسن البكر التنحي عن السلطة لمصلحة صدام بحجة تفرغه للشؤون الخاصة ومرضه، وسواء قضي البكر باسم أو بالموت الطبيعي فلم يجد من يتأسف عليه لدوره في تنصيب صدام على رئاسة السلطة والجيش والحزب وهو الرجل المتخلف عن الخدمة العسكرية. ولم يكتف صدام برئاسة السلطة فقد قام بفصل الأجهزة الأمنية عن الوزارات (فقد فصل مديرية المخابرات العامة واعتبرها جهازاً تابعاً للرئيس ومثلها مديرية الأمن العامة التي كانت تتبع وزير الداخلية فأضحت تتبع رئيس الجمهورية كما ربط مديرية الاستخبارات العسكرية بالرئيس بعد أن كانت تابعة حكماً ومنطقياً إلى وزير الدفاع) وفي هذا الفصل عمل صدام على تغييب الوزراء عن المعلومات التي ترفعها هذه الأجهزة القمعية، وغيب عملها عن رقابة الدولة والحزب، كما منحها نوعاً من الاستقلالية والدعم، وقد قام بتنصيب أخاه لأمه (برزان إبراهيم الحسن) مديراً عاماً لجهاز المخابرات العراقي ومنحه صلاحيات وزير إضافة إلى صلاحيات مطلقة إذ كانت يد برزان تطول أقوى جهة سياسية أو رسمية في الدولة العراقية باستثناء الرئيس نفسه.
واستطاع بهذا الثالوث الأمني أن يسيطر على مفاصل الدولة العراقية، إذ اعتمد نظرية المثلث المقلوب في العمل الأمني، وذلك بان أحال الدولة إلى هيئة مراقبة وتقارير إذ كان كل جهاز لا يعرف طبيعة عمل الجهاز الآخر، كما كان كل شخص لا يعرف من يقوم بمراقبته وتدقيق أعماله.
استطاع جهاز المخابرات العراقي القيام بأعمال اغتيالات ناجحة في العديد من البلدان العربية والأوروبية، وتصفية معارضين والإفلات، واستطاع صدام أن يدخل الرعب في نفوس المعارضين العراقيين وتمكن من تقييد حركتهم وهم يعيشون في أبعد نقاط المدن الأوروبية.
مثلما استطاع جهاز المخابرات العراقي أن يتداخل في مفاصل العمل الدبلوماسي ليقوم بتوظيف العناصر المخابراتية المكلفة بالمراقبة والاغتيالات ضمن العمل الدبلوماسي المحمي بالاتفاقيات والمعاهدات الدولة، وقد نجح العمل المختلط المذكور بالرغم من بعض الإخفاقات في العمليات ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية اغتيال الشهيد طالب علي السهيل في بيروت في العام 1994 والقبض على الجناة واعترافهم بذلك، وتعقيد عملية إخلاء سبيلهم برشاوى مالية تسلمها سياسيون كبار من أجل إخلاء سبيلهم وإيصالهم إلى العراق الذي تسلمهم وقام بتصفية العديد منهم، خشية كشفهم لما يدور في أروقة الجهاز. ويعتبر المجرم فاروق حجازي من عناصر المخابرات الخطرة والمساهمة في عدة عمليات لاغتيال عراقيين في الخارج منها عملية اغتيال السيد الحكيم في طهران وحردان التكريتي في الكويت وطالب السهيل في دمشق وذبح طالبين من الوريد في باكستان، وقد كوفئ بتنصيبه سفيراً في عدة دول ولم يزل يعمل في السلك الخارجي حتى هرب حالياً إلى سورية يطلب حمايتها من غضب الشعب العراقي، وكذلك لمع اسم السفير نوري الويس في عدة جرائم وهو عنصر مخابراتي ساهم بعدة جرائم آخرها إغواء الشهيد راجي التكريتي وتسليمه لعناصر الأمن الخاص لتصفيته. ووفق الحس الأمني الذي كان يسيطر على عقل صدام فقد قام بتسريح شقيقه من هذا الجهاز وكلف أولاده بإنشاء جهاز بديل مع بقاء جهاز المخابرات العراقي قائماً، فتم الإيعاز لإنشاء جهاز الأمن الخاص وكلف في حينه الشاب حسين كامل الزوج الجديد لإحدى بنات صدام والابن البكر لابن عمه كامل حسن المجيد برعاية وقيادة هذا الجهاز، وتقرر إنشاء قسم في هذا الجهاز يدعى أمن الأمن الخاص، وهذا القسم مسؤول أمام الرئيس عن كل الأجهزة الأمنية في العراق، وبإمكان الجهاز المذكور أن يقوم بكل الإجراءات الجزائية من القبض والتحري والتحقيق والمحاكمة دون إذن من قاض أو موافقة من أي جهة كانت ولأي سبب ومهما كانت رتبة ووظيفة ومنصب الشخص المطلوب، كما يمكن للجهاز المذكور أن يحكم على أي شخص ووفق أي عقوبة مهما طالت دون قرار حكم أو دون تهمة.
كما قام صدام بإنشاء جهاز أمني جديد يتخصص في القضايا التسليحية أو الإرهابية تم رفع مستوى العمل فيه إلى (وزارة التصنيع العسكري) مع ما تضمه هذه الوزارة من مؤسسات استخبارية وأمنية ومتخصصة في أمور التسليح وتطوير أسلحة الدمار الشامل تم تسليمها إلى حسين كامل إضافة إلى أعماله المناطة به من وزارة الدفاع والنفط إلى التصنيع العسكري والأمن الخاص حتى صار الشخص الثاني في مؤسسة السلطة. واستطاعت المؤسسة الأمنية في عهد صدام أن تقوم بتصفية رؤوس القيادات الحزبية من البعثيين المشكوك بولائهم للرئيس، وتم اعتماد الشك كدليل ثابت ضد من يتقرر تصفيته، وبدأت العائلة المتربعة على القاعدة الأمنية ترشح أسماء من تشك فيه لتتم تصفيتهم بسرعة بالطريقة وبالأسلوب الذي تختاره، واستطاع صدام ليس فقط إزاحة البكر بل استطاع أن يزيله عن طريقه وإلى الأبد ماسحاً اسمه من ذاكرة العراق.
واستطاعت المؤسسة الأمنية في العراق أن توظف المجاميع التي انتسبت لحزب البعث الحاكم بفعل وتحت ضغط القانون الذي أصدره صدام (قانون الحزب القائد)، استطاعت المؤسسة المذكورة أن توظف كل هذه الأعداد ضمن العمل الأمني والمراقبة، فأمرت التنظيم الحزبي بتقسيم المدن والقصبات إلى (بلوكات) ومجموعات من الدور والبيوت والعوائل تتم مراقبتها ورفع التقارير الدورية عنها.
وفي غياب العمل الحزبي الحقيقي تم استغلال وتحويل هذه الأعداد الهائلة من الحزبيين في عمليات الأمن والمراقبة وتشجيع الناس على كتابة التقارير والإخباريات وإيهام الشعب أن هذا العمل يدخل في باب العمل الوطني والحرص على سلامة الشعب، وتم اعتماد الوكلاء في الدوائر الأمنية والمخابراتية.
وبقيت المؤسسة الأمنية بعيدة عن المشاركة في مطاحن الموت التي أرادها صدام في افتعال الحرب مع إيران، محاولاً تحقيق حلمه الثالث في السيطرة على بلاد واسعة ومناطق نفطية أوسع من مساحة العراق الذي بدأت ثرواته تؤول إلى مملكة القائد الضرورة، فألغى الميزانية وألغى مؤسسة النقد الوطني وباتت الميزانية وعائدات العراق والخزين النقدي ملكاً صرفاً للقائد وعائلته. وحين زج صدام بكل ثقل السلطة العراقية والجيش العراقي في الحرب فإنه تحفظ في دفع المؤسسة الأمنية ضمن الحرب الدائرة واعتبر أن مهمتها الأمنية تقابل خدمتها في الحرب.
وساهمت المؤسسة الأمنية في إقامة مكاتب تجارية في العديد من الدول العربية، كانت العديد منها محطات وأوكار لأجهزة المخابرات العراقية، وتم توظيف المهاجرين والمغتربين من أهل العراق في سبيل مراقبة أخوتهم وأهلهم ومساعدة أجهزة الأمن والمخابرات على تصفيتهم وإنهاء وجودهم المؤثر خارج العراق. وقامت المؤسسة الأمنية في العراق بالسيطرة على جميع المرافق في الدولة العراقية، ووصل الأمر إلى إصدار قانون يقضي بتسمية موظف من الموظفين (ضابطاً للأمن) في الدائرة المذكورة ويرتبط هذا الموظف بضابط أمن حقيقي في دوائر الأمن، مهمته مراقبة حركة الموظفين وتدقيق مواقفهم وأفعالهم وتصرفاتهم.
وأقدمت المؤسسة الأمنية في العراق بمرافقها على انتهاج أساليب الابتزاز، بتصوير الشخص في وضع خاص أو تصوير عائلته، ومن ثم الضغط عليه بهذا الاتجاه ليقدم على تنفيذ ما يريده الجهاز ثم تستمر الدورة ليكلف بمهمة أخرى، ونهجت هذه المؤسسات نهجاً مدروساً وأخطبوطيا، وذلك بمد شبكة من التنظيمات الأمنية والاستخبارية والمخابراتية في العراق بأن حولت العراق إلى دائرة وسط الدائرة الأمنية، وعالجت أحاسيس الناس ومشاعرها تجاه السلطة بالإشاعات ونشر الأكاذيب التقنية التي تدلل على إمكانية هذه الأجهزة ومعرفتها الخارقة بتفاصيل ما يحدث بين الناس في العراق أو ما تتحدث به العوائل في البيوت، فأحجم العراقيون عن التحدث ضد السلطة حتى داخل جدران بيوتهم والأطباق المخابراتي على مفاصل الحياة والدولة والحزب في العراق، وبالرغم من أعداد الضحايا والشهداء والمعوقين والمغيبين والمحكومين جراء طاحونة الموت التي تحكم حياتنا في العراق، فقد جاءت حرب الخليج الثانية وقيام صدام بغزو دولة الكويت بمسرحية أمنية خائبة هذه المرة ولم توفق الأجهزة الأمنية في العراق من اتقانها للمسرحية الإعلامية المتمثلة في (مهزلة النداء) لتبرير احتلال الكويت، وتحقيقاً للحلم الرابع في السيطرة على منابع النفط في الخليج ومد اليدين للسيطرة على كل نفوط المنطقة باعتبارها ملكاً لا ينافسه فيه أحد في المنطقة محاولاً أحداث إرباك في المواقف السياسية العربية والدولية، باذلاً في سبيل ذلك الرشاوى للأحزاب وللرؤساء والدول وشراء ذمم برلمانيين وصحف وكتاب وسياسيين، محاولاً اللعب بورقة القمار مستنداً المؤسسة الأمنية داخل أو خارج العراق.
وبالرغم من الفشل الذريع والهزيمة المنكرة التي تلقاها صدام في عملية تحرير الكويت وانتصار قوات الحلفاء واللجوء إلى توقيع اتفاقية الهزيمة في خيمة صفوان في عام 1991، فقد حدثت انتفاضة آذار 1991 التي قامت بعفوية شعب العراق ودون تخطيط او برامج .توجهت الجماهير نحو خصمها الأول، الأجهزة الأمنية والمخابراتية والاستخباراتية والحزب، فأبادتها وأحرقتها وأتت عليها في منظر لم يشهد له التاريخ مثيلاً إلا في القرن السادس عشر، واستطاعت الجماهير برغم عفويتها وبساطتها أن تسيطر وتتسلم 14 محافظة من محافظات العراق، وكان صدام يعد العدة لنهايته متيقناً أن نهايته قد حلت، لولا المد الذي جاءه من انفراج سياسي ومقصود بأن يقوم باستخدام الطائرات المروحية لسحق الانتفاضة.
ومهما تكن تراكمات الأسباب التي أدت إلى سحق الانتفاضة وبقسوة، فقد عادت المؤسسة الأمنية في العراق لتلعب الدور المرسوم لها في استعادة مجدها وقوتها في ترسيخ السيطرة الأمنية في العراق، وتكاتفت وتعاونت مع قوة الجيش الذي لملم نفسه واستعاد تنظيمه لينطلق هذه المرة قامعاً لهذه الانتفاضة بأقسى وأبشع الأساليب حارقاً الأخضر واليابس. وأعيد ترتيب العراق وعادت المؤسسات الأمنية تعمل من جديد وبجد، واتسعت مساحة عملها وترتيب هيكلها خلال الفترة بعد أن استعادت السلطة سيطرتها على جميع المحافظات التي ثارت عليها، وعادت الدولة مرة أخرى ترزح تحت سيطرة المؤسسات الأمنية. وتم اعتماد كسب الملاكات والخبرات الثقافية والسياسية والاجتماعية والعلمية إليها، مثلما تم اعتماد المرشحين لكسب الوظائف الدبلوماسية والوظائف المهمة في الدولة من الذين تتم مقايضتهم للعمل في هذه الأجهزة، كما تم توظيف رجال الدين وبعض المؤسسات الخاصة من القطاع التجاري الخاص وامتدت ذيول الإخطبوط لتشتمل على مفاصل صغيرة ضمن المجتمع العراقي كسواق السيارات أو الملايات ( الملالي ) أو النساء العاملات في صالونات الحلاقة كبؤر أمنية يمكن أن تستمع وتنقل ما تتحدث عنه الناس بحرية أو بعفوية أو دون قصد، وتتم دراسة ذلك وفي ضوء هذا يتم التعامل مع الحدث أو نشر الإشاعة المضادة أو بث القضية المراد لها الانتشار. كما يشكل معهد المخابرات نموذجاً في تدريب المنتسبين والحاصلين على شهادات أكاديمية عالية ومكاسب مادية تميزهم عن باقي الشرائح من منتسبي الدولة، ويشكل المعهد المذكور النواة للاستفادة في تدريب وتطويع المنتسبين وتهيئتهم لعمليات الاغتيالات والتغطية، وإلى عمليات التصفية والإنكار أو الوقوف متفرجاً، واتباع طرق متطورة في ملاحقة الخصوم والمعارضين ونشر شبكة من الوكلاء والجواسيس تحت شتى التسميات والذرائع لإيصال تقارير الحركة والمراقبة إلى المركز.
وبعد الانتفاضة استفادت المؤسسة الأمنية في العراق من التجربة المريرة التي عاشتها بمواجهة الجماهير العراقية والسخط المتزايد، فتحول العمل الأمني في العراق إلى عمل مهمش لا قيمة له، بعد أن تم الاعتماد على المؤسسات الأمنية الخاصة التي بناها الرئيس بالقرب منه والتي تداول مسؤولياتها على التوالي أولاد الرئيس وأخوه ومن ثم زوج ابنته الكبرى المجرم المقبور حسين كامل.
واعتمدت المؤسسة الأمنية من بين اساليبها الانقلابات الوهمية في العراق حيث تقوم باستدراج بعض العسكريين أو السياسيين أو المعارضين لمجرد الشك بولائهم للسلطة، ثم يجري إحراجهم ومواجهتهم بالأدلة التي تم تجميعها ضدهم ومعاقبة هذه الأسماء ليس بأقل من الموت وهو العقوبة الوحيدة التي كان يعالج الرئيس المخلوع بها معارضيه مهما كانت مواقعهم أو خدماتهم.
( 2 )
وقامت المؤسسة الأمنية في العراق بتكرار التجربة الإيرانية في أيام حكم الشاه محمد رضا بهلوي، إذ أنشأت حزباً وهمياً تابعاً للمؤسسة ينتشر بين الجماهير، ويحاول أن يستكشف العناصر التي ترغب بالإطاحة بحكم الطاغية، ومثل هذا العمل تم اعتماده بين رجال الدين، حيث وظفت أجهزة الأمن والمخابرات العامة العديد من عناصرها لدراسة الفلسفة والشريعة والأحكام والحديث والقرآن ليتخرجوا منها عناصر ملمة بتفاصيل دقيقة عن الدين والمذاهب لتنتشر هذه العناصر في الجوامع والحسينيات تقوم بمهمة الوعظ والإرشاد، وتقوم بشكل خفي بالتحريض على السلطة لمعرفة نبض الشارع العراقي أولاً، ومن ثم معرفة الأسماء التي تشكل خطراً على وجود السلطة ليتم اجتثاثها بشكل هادئ ودقيق ودون ضجة أو تحقيق أو محاكمات.
وبالنظر لتسلم حسين كامل المؤسسة العسكرية الخاصة (وزارة الدفاع ووزارة التصنيع العسكري) فقد جنح إلى بناء مؤسسة أمنية خاصة تتمتع بكل ما تتمتع به بقية المؤسسات الأمنية من سطوة وسرية ونفاذ في مفاصل المجتمع العراقي والجيش العراقي بالذات، غير أن المؤسسة الأمنية في التصنيع العسكري أخذت على عاتقها مهمات التهريب الخاصة بالتجارة، كما عالجت العديد من القضايا المدنية والتي ترى فيها خطورة أمنية على سلطة صدام أو على مصالح أولاده وعائلته ومن ثم على مصالح القائمين بها.
بعد هروب حسين كامل المجيد وشقيقه صدام كامل المجيد ومعهما ابنتا صدام إلى الأردن، قام الأول بعقد مؤتمر صحفي حاول فيه أن يفضح المهمات الأمنية في إبادة العراقيين وكشف بعض الأسرار التي لا تشكل أية قيمة للشعب العراقي والتي تدين الطاغية ونظامه القمعي والبوليسي، منها على سبيل المثال مقتل البكر بالسم أو قضية تجسس رئيس الديوان على البكر طارق حمد العبد الله وقتله،
وقضية مقتل وزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح بعد ذلك وتهديده رئيس النظام المباد بكشف بعض الأمور إذا لم تتوقف الحملة التي يشنها النظام ضده، وقد توقفت الحملة بعد ذلك.
تابعونا في الاسبوع القادم..
وأمام هذه المشكلة التي لم تخطر ببال رئيس السلطة المباد، قام صدام بإعادة ترتيب المؤسسة الأمنية، فأعاد أحكام السيطرة على مؤسسة المخابرات العامة وعلى مؤسسة الأمن العام، بتعيين الأخوة وأبناء العم وأبناء الخالة في هذه المراكز المهمة في مفاصل الدولة العراقية، مع إعطاء الأهمية القصوى لجهاز الأمن الخاص الذي أصبح برئاسته وإشرافه شخصياً.
وبعد انكشاف محاول الانقلاب التي كان لها أن تتم في عام 1993 من قبل مجموعة الشهيد طالب السهيل والشهيد راجي التكريتي والبصو وجاسم مخلص وبقية الضباط والمدنيين الذين تمت تصفيتهم وبقي أحد رموزها على قيد الحياة (السيد سعد صالح جبر)، لوحظ أن عملية الكشف بالرغم من وجود الشكوك في تعاون جهاز المخابرات المركزية مع المخابرات العراقية في التوصل إلى أسماء الضباط والشخصيات التي ستشترك بالحركة، عدت نصراً لجهاز المخابرات العراقي عزز من إخلاصه ووجوده أمام صدام، مما وجه إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذا الجهاز، في الوقت الذي كان جهاز الأمن العام مهملاً ويحاول أن يبدي إخلاصه لرئيس السلطة المبادة من خلال عمليات التوريط وكشف المواطنين المناوئين أو الرافضين لسلطة القهر والموت، ويأخذ على عاتقه ترتيب أمور تغييبهم أو تصفيتهم بطرق لم تعد خافية على العراقيين.
إن هذا الجهاز لفت انتباه الرئيس المخلوع فأناط العمل به إلى أقاربه من أولاد المقبور طلفاح، وبذلك أعاد الاعتبار إلى اقوى المؤسسات الأمنية في العراق.
وبقيت مؤسسة الاستخبارات العسكرية بالرغم من كونها مؤسسة عسكرية خاصة تابعة إلى مؤسسة الأمن الخاص وخضعت تقاريرها لإطلاع ابن الرئيس (قصي) الذي أصبح المسؤول الأول عن جميع الأجهزة الأمنية والاستخبارية والمخابراتية في العراق.
أخذت المؤسسات الأمنية تتسابق فيها بينها في بناء كيان خاص وطرق عمل خاصة تدخل في مفاصل العمل الأمني في العراق، وقامت ببناء هيكل متكامل لشكل دولة أمنية قائمة بذاتها، فمديرية الأمن العامة لها ملاكها الخاص بالتحقيق ولها فروعها العديدة في كل محافظات وأقضية ونواحي وقرى العراق، مثلما لها أجهزتها الخاصة في ممارسة التعذيب والاغتيالات والقتل بالطرق التي تعتمدها وتتخصص بها، إضافة إلى تفردها في إنشاء السجون الخاصة والأقبية والغرف التي تغيب تحت الأرض ومن دون مداخل أو ابواب معروفة للناس، وفوق كل هذا فإن عملها لا تعرف به الأجهزة الأخرى.
أما جهاز الاستخبارات العسكرية، فقد أخذ على عاتقه ليس فقط التحقيق في القضايا السياسية والتوجيهات المعارضة لصدام داخل صفوف الجيش العراقي، وليس فقط مهمة التجسس ومتابعة تحركات الضباط القادة والأعوان الكبار في وحدات الجيش العراقي، بل وصل الأمر إلى التحقيق في قضايا مدنية.
في حين أن جهاز المخابرات العراقي قام بإنشاء سلطة خاصة قائمة على الخوف والإرهاب وبناء شبكة عنكبوتية من الخيوط الممتدة إلى أدق وأصغر مفاصل الحياة في العراق ليس فقط الجانب السياسية إنما تعدى ذلك إلى الجانب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والديني.
وفوق كل هذه الأجهزة بقي جهاز الأمن الخاص الذي يتمتع بحظوة وثقة صدام، بالنظر لكون قيادته بيد ابنه أولاً، وثانياً أن القدرات والقوة التي يضرب بها هذا الجهاز لا تعادلها قوة الضربة التي تقوم بها الأجهزة الأخرى، كما أن هذا الجهاز بات التشكيل العشائري أو العائلي أو القبلي الخالص ولا يسمح بدخول العناصر المشبوهة من أبناء بقية المحافظات وأبناء بقية الأديان والمذاهب في العراق والذي كانت لا تخلو منهم بقية الأجهزة الأمنية في العراق.
وتفردت جميع هذه الأجهزة بتشكيل محاكم خاصة لها تصدر أحكامها دون التقيد بنصوص قانون العقوبات ودون التقيد بطريقة المحاكمة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية أو اعتماد طرق الطعن المقررة في القانون أو حتى للرقابة القضائية أو إطلاع أجهزة مجلس العدل أو الإشراف العدلي على تلك القضايا باعتبارها من القضايا التي تمس الأمن والسيادة في البلاد.
بعد أن قامت السلطة بتسليط (عدي) على المؤسسات الطلابية والشبابية ومن ثم تسلطه على الصحافة التي احتضرت طويلاً بفعل عوامل الكتم والانغلاق والكبت وغياب الرأي الآخر التي مارستها أجهزة السلطة المبادة على هذا المنبر، فقد بات المسؤول الأول عن المؤسسة الصحفية، وتماشياً مع وجود الأجهزة الأمنية في الدولة قام المجرم المذكور بالإيعاز إلى بناء مؤسسة أمنية داخل جسد المؤسسة الصحفية مثلما قام بذلك في الجسد الطلابي، وأنشأ في اللجنة الأولمبية مؤسسة أمنية تتمتع بكل مواصفات السلطة، ووصل الأمر أن تقوم مؤسسة اللجنة الأولمبية بالتحقيق في قضايا جنائية عادية وتراقب عمل القضاة وتدقق في صحة قراراتهم القضائية والقانونية من عدمها وفي سلوكهم اليومي، كما قامت اللجنة الأولمبية وبأمر من المقبور عدي بإنشاء محكمة تحقيق ومحكمة تصدر الأحكام القطعية في هذا الجهاز.
بعد كل هذا صارت الفكرة أن يتم إنشاء جهاز تقوم بنيته الأساسية على ضم الشباب العاطلين عن العمل والذين انحسرت فرص الحياة والمستقبل لهم واستغلال حاجة المواطن العراقي في ظل الحصار الذي بدأ يأكل أرواح العراقيين ويقوي سواعد السلطة ويمد في عمرها، صارت الحاجة إلى إنشاء منظمة أمنية إرهابية تدعى (منظمة فدائيي صدام) يقودها عدي وتتبعه في تنفيذ الأوامر، وتشكل الخط الظل في مواجهة الشعب العراقي والانتفاضات المتوقع حدوثها أو الحركات العسكرية التي قد تحدث في المستقبل.
وأخذت هذه المنظمة تستولي على الشباب وتقوم بتدريبهم على أساليب إرهاب الجماهير التي يبدو أنها شعرت بتململها من السلطة ومن الحصار، فابتدعت أساليب قطع الألسن في الساحات العامة، وليس أقسى من قيام مواطن بقطع لسان مواطن آخر من أبناء بلدته أو قريته أمام الناس، كما تم توظيف هذه العناصر في عمليات ترويع المواطنين وتفتيش منازلهم، كما استغلت المنظمة أبشع استغلال في عملية قطع رؤوس النساء المتهمات بقضايا أخلاقية بالسيف وأمام دورهن، وقد تمت تصفية العديد من النساء المعارضات للسلطة ضمن هذا المخطط الأمني الرهيب الذي تتطابق فيه عملية التشويه الأخلاقي والاجتماعي مع نهاية معارضته للسلطة.
وبقيت كل هذه الأجهزة تعمل بفاعلية كاملة وتحرس نفسها وتحيط عملها بأقصى ظروف السرية والكتمان، ولا تتوانى في تصفية أي عنصر منها تجده قد أبدى أي رفض أو استنكار أو تراخ لما تقوم به هذه الأجهزة.
وبقيت المنظمة الأمنية الخط الأول الذي يقف أمام صدام حسين بما في ذلك الدائرة القريبة منه والخاصة بالحماية الخاصة والتي تتمتع أيضاً بدائرة أمنية خاصة لها تتفرع بين الحماية الأولى والمرافق الأقدم ودائرة التذوق للطعام ودائرة الشبيه والبديل ودائرة المصور الخاص ودائرة الحماية الثانية والتي تأخذ على عاتقها أن تنتشر بين الناس بملابس مدنية تحمل السلاح وتؤدي دور الجماهير التي تستقبل الطاغية، وكانت أخطر هذه الدوائر هي الدائرة الأمنية في دائرة الحماية الخاصة والتي كان مسؤولاً عنها لفترة طويلة المجرم شبيب المجيد وتسلمها منه المجرم روكان رزوقي، والتي كانت مسؤولة مسؤولية تامة عن تحركات الطاغية وتوجيه جهاز الحماية.
رويبقى دور الجهاز الخفي الذي أسسه صدام والذي تنامى بوجود عناصر عربية وأجنبية من خلال دراسات وبحوث عالية المستوى ضمن مؤسسة أمنية تدعى (جهاز الأمن القومي) ويأخذ هذا الجهاز على عاتقه تجنيد المثقفين والفنانين والصحفيين والسياسيين العرب والأجانب، ويشرف صدام شخصياً على هذا الجهاز ولم يسمح لأحد بالإطلاع على مفاصل العمل في هذا الجهاز، وتم ربط الجهاز المذكور بالمجرم قصي.
ومن خلال هذا الجهاز تم تجنيد العديد من الفنانين العرب وتم توجيه الكتاب والمثقفين سواء من خلال حضور المؤتمرات أو من خلال العطايا السخية التي ينفقها الجهاز أو من خلال المساعدات الشهرية أو المنح السنوية أو الهبات السنوية التي يتلقها هؤلاء ليس من السلطة العراقية، وإنما من مؤسسات تجارية أو ثقافية وظفتها السلطة لحساب العمل ضمن مؤسسة السلطة الأمنية داخل جسد جهاز الأمن القومي.
وبالغ جهاز الأمن القومي في شراء الذمم والضمائر، كما مارس وسائل خسيسة في ذلك، منها شراء المستمسكات التي تدين وتفضح هذه العناصر ولزوم عملها مع هذه الأجهزة، وتم تسجيل أشرطة فيديو وتسجيلات صوتية للعديد من هذه الشخصيات تستطيع السلطة من خلالها التشهير بها والحط من سمعتها، وأنفقت في سبيل ذلك الملايين من الدولارات، وصار لها بالنتيجة ملاك من العملاء الذين بقوا يدافعون عن سلطة الطاغية وبقوا يخشون أن تفضح أعمالهم وقضاياهم حتى بعد القضاء على الطاغية ظناً منهم أن هذه المستمسكات والأدلة باقية، والأسماء الفنية والثقافية العربية والأجنبية معروفة ولا نجد مبرراً لتسميتها فالمواطن العراقي يعرفها حق اليقين ومن سوء حظها أن الأدلة وقعت بفعل عامل تغير الزمن بأيدي الشعب العراقي، وكلي ثقة أن الشعب العراقي لن يستعمل هذه الوثائق والأدلة ضدهم، إنما سيرسلها هدية إليهم نهاية لضمائرهم المدفونة والميتة.
فما سبب تخلي هذه المنظمة السرية وبهذا الحجم والإمكانية عن الرئيس المباد؟
وأمام ما عرضناه نجد أن صدام نفسه استعمل مبدأ الشك في كل من حوله، فلم يكن يثق بأحد مطلقاً باستثناء أفراد عائلته المقربين، ولهذا كان على الدوام يقوم بإبدال عناصر الحماية الخاصة والمتذوق الخاص، ولم يثق بأي جهاز أمني من هذه الأجهزة إنما كان يعتبرها حواجز ومصدات لإعاقة أي تحرك ثوري أو انقلابي من الجماهير ضد سلطته، وصدام حين قام بإنشاء أول خلية سرية أمنية داخل التنظيم بحجة الدفاع عن التنظيم ومقاتلة الشيوعيين، كان في الحقيقة يرمي من وراء ذلك إلى خلق منظمة صغيرة يحقق بها طموحه، بالنظر لتقديمه أكثر من طلب رسمي إلى الحكومة يطلب فيها تعيينه بوظيفة شرطي أمن لم تحصل الموافقة على طلباته، وهكذا كان الرئيس المخلوع يحلم بأن يكون (شرطياً سرياً) كما كانوا يسمونه في العراق أو شرطي أمن يحمل مسدساً تحت جاكيته ليشبع بها جزءاً من روحه المتعطشة إلى حمل السلاح بأي ثمن.
هذا من جانب ومن جانب آخر، فقد شعرت المنظمة السرية أنها وإن كانت تقدم خدماتها للرئيس المخلوع على طبق من ذهب، إلا أن نهايتها مسجلة وقدرها مقرر، ويعرف العديد من عناصر المنظمة الأمنية أن عناصرها تنتهي بعد تنفيذ العمليات الخاصة بالقتل أو بالاغتيال، ولهذا جعل بقاء منتسبيها حصراً في العراق وبالغ في تدريسهم وتعليمهم وإسكانهم بمعزل عن الناس وبقائهم داخل العراق وبقي شيء من التردد والخوف يطرق داخل نفوس هذه العناصر، ونتيجة الحياة النقابية والعزلة الكاملة التي يعيشها هؤلاء تناسى الكثيرون منهم هذا الواقع وبات يعمل دون تفكير أو تمحيص لمصلحة المنظمة الأمنية في العراق.
وأدت العزلة التي حصلت بين أفراد هذه المؤسسات وبين الناس إضافة إلى التخوف والتردد من إقامة العلاقات معهم إلى حصرهم وبقائهم ضمن الدائرة الأمنية لا يستطيعون أن يتخلصوا منها بشتى الطرق، وظلوا مسكونين بهاجس الخوف من الجماهير في لحظة الانتفاض، وعلى اعتبار أن العديد من هذه العناصر أوغل في الجريمة وتلطخت أياديهم في الجرائم لمصلحة سلطة صدام التي لن تحميه من القانون أو من غضب الناس. وعلى الرغم من كل الاحتياطات نما عند هؤلاء إحساس بالغبن وهم يقدمون كل شيء عندهم لمصلحة الرئيس وأولاده مقابل الاحتقار والاستخفاف بدورهم ووظيفتهم من قبل سلطة العائلة التي تهيمن على كل شيء في العراق.
وبالرغم من هذه المنظمة الأمنية هي على الأغلب من العراقيين مع احتوائها العناصر عربية من فلسطين وسوريا والسودان واليمن ومصر ولبنان وتونس، وأجنبية من شتى أصقاع الأرض، فإن العناصر العراقية كانت بالرغم من دورها وتقييدها إلا إنها كانت تتفاعل ولو بشكل جزئي مع أهلها وعشائرها، ويمكن أن تنمو داخل كيانها المشبع بالحس الأمني ما يتوجه بالكراهية لرئيس السلطة المبادة وأولاده.
وبناء مثل هذه المؤسسات لم يتم على أساس الفكر السياسي أو نقطة الالتقاء القومي أو الديني، إنما تم تجميع هذه العناصر عشوائياً ضمن مخطط جلب المعلومات من جميع مفاصل الحياة في العراق، وشكل الكم الهائل من الأفراد شبكة لا يمكن أن تكون جميعها تؤمن بشخص الطاغية وبقائه في السلطة وتنعم عائلته بخيرات العراق على حساب بؤس العراقيين، وهذا الانفلات من دائرة السلطة يمكن أن يكون له تأثير ولو نسبي.
كما شكل التفاوت في المخصصات والإكراميات والهبات والعطايا بين أفراد هذه التشكيلات إحساساً بالغبن وشعوراً بالدونية في الوقت الذي كانت تتمتع بعض فصائل الشبكة الأمنية بحقوق وهبات تحسدها عليها باقي الجهات مع أن عملها ليس أكثر فاعلية أو دقة من الأخيرة. وبقيت صورة حالة انتقام الجماهير من انفراد المؤسسة الأمنية بغض النظر عن اقسامها (سواء كانت المخابرات أو الأمن أو الاستخبارات أو الأمن القومي) فإن الجماهير طاردتها وانتقمت منها شر انتقام، وبقيت تلك الصورة شاخصة ومعلومة لهذه العناصر، متخوفة أن لا تتكرر نفس المأساة في وقت آخر، وقد تحسبت لذلك واتخذت العدة للدفاع عن نفسها وعن السلطة.
وحين حلت الساعة كانت المؤسسة الأمنية قادرة على القتال والوقوف لكبح جماح أية انتفاضة جماهيرية بعد أن درست وخططت وأمنت وسلحت عناصرها ووكلاءها، لكن الذي حدث أن المؤسسة الأمنية وهي تقف للجماهير بالمرصاد كانت تشاهد القطعات العسكرية المكلفة بحماية العاصمة وهي العصب الحساس في الدولة العراقية، تغادر ميدان المعركة، فتيقنت أن هذه القطعات وضباطها وقيادتها وأركانها لا تنسحب لأي سبب ما لم يكون أمراً قد صدر لها بالانسحاب، أو أن الطاغية مات بالقصف الجوي فعاد ضباطها وأركانها ونزعوا عنهم خوفهم الذي كان مسيطراً عليهم في زمن البغي وانسحبوا من مناطق القتال أو أمروا قواتهم بالانسحاب أو بترك المواقع للجيش القادم دون قتال يذكر.
وتفرقت عناصر هذه المؤسسة بين البيوت المدنية واحتمت بعشائرها وأقاربها من انتقام الجماهير العراقية، واحترقت ورقة مهمة من أوراق صدام حسين التي أنفق عليها المليارات من اجل ترويع وتخويف الشعب العراقي وحماية سلطته وأمنه العائلي والشخصي وأمواله التي نهبها من مال العراقيين على حساب بؤسهم وجوعهم وتعبهم وأمراضهم. احترقت هذه المؤسسة كما يحترق الورق، فأضحت مقراتها محترقة وخاوية، وانكشفت سراديبها وزنازينها وأنفاقها تحت الأرض بما لا يتصوره العقل والمنطق، وتبخرت أسلحتها في حين بقيت آثار تعذيبها وطرق موتها للمعارضين والأبرياء من أبناء العراق.
ويمكن أن تكون المؤسسة الأمنية قد لحقت بالأندساس بين صفوف الجماهير الغاضبة وتمكنت من أن تصل إلى الملفات الأمنية والأسرار التي تدينها وتشير إلى جرائمها فتحرقها وتتلف أسماء جواسيسها والمتعاونين معها ووكلائها، ولكنها نسيت قبل ذلك أن تحرق كل جثث المعذبين والمعوقين والذين دفنوا أحياء من شعب العراق والذين سيجدهم أهل العراق عاجلاً أم آجلاً، والشهداء والمغدورين في عمليات الاغتيالات خارج العراق، ستبقى الكثير من الأدلة والأسانيد التي تثبت أن ما مر بشعب العراق لم يكن يخطر ببال التاريخ ولا في صفحات الزمن الأغبر الذي استطاع في غفلة منه أن يستحوذ على السلطة أشباه الرجال الممتلئين بالعقد النفسية وجوع الروح، فحولوا العراق إلى محرقة يحترق فيها أهله بنيرانهم ويذوبون بالحوامض التي أعدوها لهذه المهمات وينشرونهم بالمناشير الكهربائية ويصعقونهم بالصواعق الكهربائية أو بضربات العصي المكهربة وفي أساليب التعذيب النفسي العالية التأثير، ثم فوق هذا يسومونهم سوء العذاب ويذلوهم ويستعملون معهم أخس الأساليب الإنسانية في التحقيق النفسي وذلك باغتصاب الزوجات والأخوات والبنات أمام أنظار ذويهم وقتل الأطفال أمام أنظار المعارضين أو حجز الأمهات العجائز والشيوخ كبار السن مدداً غير محددة في سجون المجرمين العاديين.
إنهارت المؤسسة الأمنية مع انهيار السلطة الصدامية، وسجلت أطول فترة كالحة ليس في تاريخ العراق، وإنما في تاريخ المنطقة العربية، وقد لا أغالي إذا قلت أن التجربة التي خاضها العراق في ظل المؤسسة الأمنية التي أنشأها الطاغية المباد صدام لم يكن لها مثيل في كل الدنيا.
ويقينا أن الله سبحانه وتعالى يؤكد أنه يمهل ولا يهمل فقد سلطة على السلطة المطبقة على خناق العراق، قوة أكبر منها وأقوى منها فقضت عليها وانقضت حقبة مليئة بالمرارة والدموع والخوف والهموم والحزن والموت والعذاب والموت البطيء في زنازين تحت الأرض أو لا يعرفها غير سجانيها، وضحايا بلغت قوافل من الشهداء بحجم المحنة الكبيرة التي عاشها العراق بعد أن أطبقت قوى الشر على كل مفاصل الحياة فيه وأفسدت حتى الهواء والزرع والضرع في العراق الذي كان جميلاً وحميماً. وإذ ينزع العراق زمناً أسود مليئاً بالخوف، فإنه يطمح بحياة خالية من الخوف والرهبة والقلق والتوجس، حياة خالية من ملفات الأمن والمخابرات والأمن الخاص والأمن العام والاستخبارات وتقارير الحزب المباد والجيش الشعبي وجيش القدس وفدائيي صدام، حياة خالية من ضباب الشك وأوهام الريبة والتوجس والمراقبة والخوف من الانتقاد وقول الرأي الآخر.