وأمام هذه المشكلة التي لم تخطر ببال رئيس السلطة المباد، قام صدام بإعادة ترتيب المؤسسة الأمنية، فأعاد أحكام السيطرة على مؤسسة المخابرات العامة وعلى مؤسسة الأمن العام، بتعيين الأخوة وأبناء العم وأبناء الخالة في هذه المراكز المهمة في مفاصل الدولة العراقية، مع إعطاء الأهمية القصوى لجهاز الأمن الخاص الذي أصبح برئاسته وإشرافه شخصياً.
وبعد انكشاف محاول الانقلاب التي كان لها أن تتم في عام 1993 من قبل مجموعة الشهيد طالب السهيل والشهيد راجي التكريتي والبصو وجاسم مخلص وبقية الضباط والمدنيين الذين تمت تصفيتهم وبقي أحد رموزها على قيد الحياة (السيد سعد صالح جبر)، لوحظ أن عملية الكشف بالرغم من وجود الشكوك في تعاون جهاز المخابرات المركزية مع المخابرات العراقية في التوصل إلى أسماء الضباط والشخصيات التي ستشترك بالحركة، عدت نصراً لجهاز المخابرات العراقي عزز من إخلاصه ووجوده أمام صدام، مما وجه إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذا الجهاز، في الوقت الذي كان جهاز الأمن العام مهملاً ويحاول أن يبدي إخلاصه لرئيس السلطة المبادة من خلال عمليات التوريط وكشف المواطنين المناوئين أو الرافضين لسلطة القهر والموت، ويأخذ على عاتقه ترتيب أمور تغييبهم أو تصفيتهم بطرق لم تعد خافية على العراقيين.
إن هذا الجهاز لفت انتباه الرئيس المخلوع فأناط العمل به إلى أقاربه من أولاد المقبور طلفاح، وبذلك أعاد الاعتبار إلى اقوى المؤسسات الأمنية في العراق. وبقيت مؤسسة الاستخبارات العسكرية بالرغم من كونها مؤسسة عسكرية خاصة تابعة إلى مؤسسة الأمن الخاص وخضعت تقاريرها لإطلاع ابن الرئيس (قصي) الذي أصبح المسؤول الأول عن جميع الأجهزة الأمنية والاستخبارية والمخابراتية في العراق. أخذت المؤسسات الأمنية تتسابق فيها بينها في بناء كيان خاص وطرق عمل خاصة تدخل في مفاصل العمل الأمني في العراق، وقامت ببناء هيكل متكامل لشكل دولة أمنية قائمة بذاتها، فمديرية الأمن العامة لها ملاكها الخاص بالتحقيق ولها فروعها العديدة في كل محافظات وأقضية ونواحي وقرى العراق، مثلما لها أجهزتها الخاصة في ممارسة التعذيب والاغتيالات والقتل بالطرق التي تعتمدها وتتخصص بها، إضافة إلى تفردها في إنشاء السجون الخاصة والأقبية والغرف التي تغيب تحت الأرض ومن دون مداخل أو ابواب معروفة للناس، وفوق كل هذا فإن عملها لا تعرف به الأجهزة الأخرى.
أما جهاز الاستخبارات العسكرية، فقد أخذ على عاتقه ليس فقط التحقيق في القضايا السياسية والتوجيهات المعارضة لصدام داخل صفوف الجيش العراقي، وليس فقط مهمة التجسس ومتابعة تحركات الضباط القادة والأعوان الكبار في وحدات الجيش العراقي، بل وصل الأمر إلى التحقيق في قضايا مدنية.
في حين أن جهاز المخابرات العراقي قام بإنشاء سلطة خاصة قائمة على الخوف والإرهاب وبناء شبكة عنكبوتية من الخيوط الممتدة إلى أدق وأصغر مفاصل الحياة في العراق ليس فقط الجانب السياسية إنما تعدى ذلك إلى الجانب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والديني. وفوق كل هذه الأجهزة بقي جهاز الأمن الخاص الذي يتمتع بحظوة وثقة صدام، بالنظر لكون قيادته بيد ابنه أولاً، وثانياً أن القدرات والقوة التي يضرب بها هذا الجهاز لا تعادلها قوة الضربة التي تقوم بها الأجهزة الأخرى، كما أن هذا الجهاز بات التشكيل العشائري أو العائلي أو القبلي الخالص ولا يسمح بدخول العناصر المشبوهة من أبناء بقية المحافظات وأبناء بقية الأديان والمذاهب في العراق والذي كانت لا تخلو منهم بقية الأجهزة الأمنية في العراق.
وتفردت جميع هذه الأجهزة بتشكيل محاكم خاصة لها تصدر أحكامها دون التقيد بنصوص قانون العقوبات ودون التقيد بطريقة المحاكمة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية أو اعتماد طرق الطعن المقررة في القانون أو حتى للرقابة القضائية أو إطلاع أجهزة مجلس العدل أو الإشراف العدلي على تلك القضايا باعتبارها من القضايا التي تمس الأمن والسيادة في البلاد. بعد أن قامت السلطة بتسليط (عدي) على المؤسسات الطلابية والشبابية ومن ثم تسلطه على الصحافة التي احتضرت طويلاً بفعل عوامل الكتم والانغلاق والكبت وغياب الرأي الآخر التي مارستها أجهزة السلطة المبادة على هذا المنبر، فقد بات المسؤول الأول عن المؤسسة الصحفية، وتماشياً مع وجود الأجهزة الأمنية في الدولة قام المجرم المذكور بالإيعاز إلى بناء مؤسسة أمنية داخل جسد المؤسسة الصحفية مثلما قام بذلك في الجسد الطلابي، وأنشأ في اللجنة الأولمبية مؤسسة أمنية تتمتع بكل مواصفات السلطة، ووصل الأمر أن تقوم مؤسسة اللجنة الأولمبية بالتحقيق في قضايا جنائية عادية وتراقب عمل القضاة وتدقق في صحة قراراتهم القضائية والقانونية من عدمها وفي سلوكهم اليومي، كما قامت اللجنة الأولمبية وبأمر من المقبور عدي بإنشاء محكمة تحقيق ومحكمة تصدر الأحكام القطعية في هذا الجهاز. بعد كل هذا صارت الفكرة أن يتم إنشاء جهاز تقوم بنيته الأساسية على ضم الشباب العاطلين عن العمل والذين انحسرت فرص الحياة والمستقبل لهم واستغلال حاجة المواطن العراقي في ظل الحصار الذي بدأ يأكل أرواح العراقيين ويقوي سواعد السلطة ويمد في عمرها، صارت الحاجة إلى إنشاء منظمة أمنية إرهابية تدعى (منظمة فدائيي صدام) يقودها عدي وتتبعه في تنفيذ الأوامر، وتشكل الخط الظل في مواجهة الشعب العراقي والانتفاضات المتوقع حدوثها أو الحركات العسكرية التي قد تحدث في المستقبل.
وأخذت هذه المنظمة تستولي على الشباب وتقوم بتدريبهم على أساليب إرهاب الجماهير التي يبدو أنها شعرت بتململها من السلطة ومن الحصار، فابتدعت أساليب قطع الألسن في الساحات العامة، وليس أقسى من قيام مواطن بقطع لسان مواطن آخر من أبناء بلدته أو قريته أمام الناس، كما تم توظيف هذه العناصر في عمليات ترويع المواطنين وتفتيش منازلهم، كما استغلت المنظمة أبشع استغلال في عملية قطع رؤوس النساء المتهمات بقضايا أخلاقية بالسيف وأمام دورهن، وقد تمت تصفية العديد من النساء المعارضات للسلطة ضمن هذا المخطط الأمني الرهيب الذي تتطابق فيه عملية التشويه الأخلاقي والاجتماعي مع نهاية معارضته للسلطة.
وبقيت كل هذه الأجهزة تعمل بفاعلية كاملة وتحرس نفسها وتحيط عملها بأقصى ظروف السرية والكتمان، ولا تتوانى في تصفية أي عنصر منها تجده قد أبدى أي رفض أو استنكار أو تراخ لما تقوم به هذه الأجهزة.
وبقيت المنظمة الأمنية الخط الأول الذي يقف أمام صدام حسين بما في ذلك الدائرة القريبة منه والخاصة بالحماية الخاصة والتي تتمتع أيضاً بدائرة أمنية خاصة لها تتفرع بين الحماية الأولى والمرافق الأقدم ودائرة التذوق للطعام ودائرة الشبيه والبديل ودائرة المصور الخاص ودائرة الحماية الثانية والتي تأخذ على عاتقها أن تنتشر بين الناس بملابس مدنية تحمل السلاح وتؤدي دور الجماهير التي تستقبل الطاغية، وكانت أخطر هذه الدوائر هي الدائرة الأمنية في دائرة الحماية الخاصة والتي كان مسؤولاً عنها لفترة طويلة المجرم شبيب المجيد وتسلمها منه المجرم روكان رزوقي، والتي كانت مسؤولة مسؤولية تامة عن تحركات الطاغية وتوجيه جهاز الحماية.
رويبقى دور الجهاز الخفي الذي أسسه صدام والذي تنامى بوجود عناصر عربية وأجنبية من خلال دراسات وبحوث عالية المستوى ضمن مؤسسة أمنية تدعى (جهاز الأمن القومي) ويأخذ هذا الجهاز على عاتقه تجنيد المثقفين والفنانين والصحفيين والسياسيين العرب والأجانب، ويشرف صدام شخصياً على هذا الجهاز ولم يسمح لأحد بالإطلاع على مفاصل العمل في هذا الجهاز، وتم ربط الجهاز المذكور بالمجرم قصي. ومن خلال هذا الجهاز تم تجنيد العديد من الفنانين العرب وتم توجيه الكتاب والمثقفين سواء من خلال حضور المؤتمرات أو من خلال العطايا السخية التي ينفقها الجهاز أو من خلال المساعدات الشهرية أو المنح السنوية أو الهبات السنوية التي يتلقها هؤلاء ليس من السلطة العراقية، وإنما من مؤسسات تجارية أو ثقافية وظفتها السلطة لحساب العمل ضمن مؤسسة السلطة الأمنية داخل جسد جهاز الأمن القومي. وبالغ جهاز الأمن القومي في شراء الذمم والضمائر، كما مارس وسائل خسيسة في ذلك، منها شراء المستمسكات التي تدين وتفضح هذه العناصر ولزوم عملها مع هذه الأجهزة، وتم تسجيل أشرطة فيديو وتسجيلات صوتية للعديد من هذه الشخصيات تستطيع السلطة من خلالها التشهير بها والحط من سمعتها، وأنفقت في سبيل ذلك الملايين من الدولارات، وصار لها بالنتيجة ملاك من العملاء الذين بقوا يدافعون عن سلطة الطاغية وبقوا يخشون أن تفضح أعمالهم وقضاياهم حتى بعد القضاء على الطاغية ظناً منهم أن هذه المستمسكات والأدلة باقية، والأسماء الفنية والثقافية العربية والأجنبية معروفة ولا نجد مبرراً لتسميتها فالمواطن العراقي يعرفها حق اليقين ومن سوء حظها أن الأدلة وقعت بفعل عامل تغير الزمن بأيدي الشعب العراقي، وكلي ثقة أن الشعب العراقي لن يستعمل هذه الوثائق والأدلة ضدهم، إنما سيرسلها هدية إليهم نهاية لضمائرهم المدفونة والميتة.
- فما سبب تخلي هذه المنظمة السرية وبهذا الحجم والإمكانية عن الرئيس المباد؟
وأمام ما عرضناه نجد أن صدام نفسه استعمل مبدأ الشك في كل من حوله، فلم يكن يثق بأحد مطلقاً باستثناء أفراد عائلته المقربين، ولهذا كان على الدوام يقوم بإبدال عناصر الحماية الخاصة والمتذوق الخاص، ولم يثق بأي جهاز أمني من هذه الأجهزة إنما كان يعتبرها حواجز ومصدات لإعاقة أي تحرك ثوري أو انقلابي من الجماهير ضد سلطته، وصدام حين قام بإنشاء أول خلية سرية أمنية داخل التنظيم بحجة الدفاع عن التنظيم ومقاتلة الشيوعيين، كان في الحقيقة يرمي من وراء ذلك إلى خلق منظمة صغيرة يحقق بها طموحه، بالنظر لتقديمه أكثر من طلب رسمي إلى الحكومة يطلب فيها تعيينه بوظيفة شرطي أمن لم تحصل الموافقة على طلباته، وهكذا كان الرئيس المخلوع يحلم بأن يكون (شرطياً سرياً) كما كانوا يسمونه في العراق أو شرطي أمن يحمل مسدساً تحت جاكيته ليشبع بها جزءاً من روحه المتعطشة إلى حمل السلاح بأي ثمن. هذا من جانب ومن جانب آخر، فقد شعرت المنظمة السرية أنها وإن كانت تقدم خدماتها للرئيس المخلوع على طبق من ذهب، إلا أن نهايتها مسجلة وقدرها مقرر، ويعرف العديد من عناصر المنظمة الأمنية أن عناصرها تنتهي بعد تنفيذ العمليات الخاصة بالقتل أو بالاغتيال، ولهذا جعل بقاء منتسبيها حصراً في العراق وبالغ في تدريسهم وتعليمهم وإسكانهم بمعزل عن الناس وبقائهم داخل العراق وبقي شيء من التردد والخوف يطرق داخل نفوس هذه العناصر، ونتيجة الحياة النقابية والعزلة الكاملة التي يعيشها هؤلاء تناسى الكثيرون منهم هذا الواقع وبات يعمل دون تفكير أو تمحيص لمصلحة المنظمة الأمنية في العراق. وأدت العزلة التي حصلت بين أفراد هذه المؤسسات وبين الناس إضافة إلى التخوف والتردد من إقامة العلاقات معهم إلى حصرهم وبقائهم ضمن الدائرة الأمنية لا يستطيعون أن يتخلصوا منها بشتى الطرق، وظلوا مسكونين بهاجس الخوف من الجماهير في لحظة الانتفاض، وعلى اعتبار أن العديد من هذه العناصر أوغل في الجريمة وتلطخت أياديهم في الجرائم لمصلحة سلطة صدام التي لن تحميه من القانون أو من غضب الناس. وعلى الرغم من كل الاحتياطات نما عند هؤلاء إحساس بالغبن وهم يقدمون كل شيء عندهم لمصلحة الرئيس وأولاده مقابل الاحتقار والاستخفاف بدورهم ووظيفتهم من قبل سلطة العائلة التي تهيمن على كل شيء في العراق. وبالرغم من هذه المنظمة الأمنية هي على الأغلب من العراقيين مع احتوائها العناصر عربية من فلسطين وسوريا والسودان واليمن ومصر ولبنان وتونس، وأجنبية من شتى أصقاع الأرض، فإن العناصر العراقية كانت بالرغم من دورها وتقييدها إلا إنها كانت تتفاعل ولو بشكل جزئي مع أهلها وعشائرها، ويمكن أن تنمو داخل كيانها المشبع بالحس الأمني ما يتوجه بالكراهية لرئيس السلطة المبادة وأولاده. وبناء مثل هذه المؤسسات لم يتم على أساس الفكر السياسي أو نقطة الالتقاء القومي أو الديني، إنما تم تجميع هذه العناصر عشوائياً ضمن مخطط جلب المعلومات من جميع مفاصل الحياة في العراق، وشكل الكم الهائل من الأفراد شبكة لا يمكن أن تكون جميعها تؤمن بشخص الطاغية وبقائه في السلطة وتنعم عائلته بخيرات العراق على حساب بؤس العراقيين، وهذا الانفلات من دائرة السلطة يمكن أن يكون له تأثير ولو نسبي. كما شكل التفاوت في المخصصات والإكراميات والهبات والعطايا بين أفراد هذه التشكيلات إحساساً بالغبن وشعوراً بالدونية في الوقت الذي كانت تتمتع بعض فصائل الشبكة الأمنية بحقوق وهبات تحسدها عليها باقي الجهات مع أن عملها ليس أكثر فاعلية أو دقة من الأخيرة. وبقيت صورة حالة انتقام الجماهير من انفراد المؤسسة الأمنية بغض النظر عن اقسامها (سواء كانت المخابرات أو الأمن أو الاستخبارات أو الأمن القومي) فإن الجماهير طاردتها وانتقمت منها شر انتقام، وبقيت تلك الصورة شاخصة ومعلومة لهذه العناصر، متخوفة أن لا تتكرر نفس المأساة في وقت آخر، وقد تحسبت لذلك واتخذت العدة للدفاع عن نفسها وعن السلطة. وحين حلت الساعة كانت المؤسسة الأمنية قادرة على القتال والوقوف لكبح جماح أية انتفاضة جماهيرية بعد أن درست وخططت وأمنت وسلحت عناصرها ووكلاءها، لكن الذي حدث أن المؤسسة الأمنية وهي تقف للجماهير بالمرصاد كانت تشاهد القطعات العسكرية المكلفة بحماية العاصمة وهي العصب الحساس في الدولة العراقية، تغادر ميدان المعركة، فتيقنت أن هذه القطعات وضباطها وقيادتها وأركانها لا تنسحب لأي سبب ما لم يكون أمراً قد صدر لها بالانسحاب، أو أن الطاغية مات بالقصف الجوي فعاد ضباطها وأركانها ونزعوا عنهم خوفهم الذي كان مسيطراً عليهم في زمن البغي وانسحبوا من مناطق القتال أو أمروا قواتهم بالانسحاب أو بترك المواقع للجيش القادم دون قتال يذكر. وتفرقت عناصر هذه المؤسسة بين البيوت المدنية واحتمت بعشائرها وأقاربها من انتقام الجماهير العراقية، واحترقت ورقة مهمة من أوراق صدام حسين التي أنفق عليها المليارات من اجل ترويع وتخويف الشعب العراقي وحماية سلطته وأمنه العائلي والشخصي وأمواله التي نهبها من مال العراقيين على حساب بؤسهم وجوعهم وتعبهم وأمراضهم. احترقت هذه المؤسسة كما يحترق الورق، فأضحت مقراتها محترقة وخاوية، وانكشفت سراديبها وزنازينها وأنفاقها تحت الأرض بما لا يتصوره العقل والمنطق، وتبخرت أسلحتها في حين بقيت آثار تعذيبها وطرق موتها للمعارضين والأبرياء من أبناء العراق. ويمكن أن تكون المؤسسة الأمنية قد لحقت بالأندساس بين صفوف الجماهير الغاضبة وتمكنت من أن تصل إلى الملفات الأمنية والأسرار التي تدينها وتشير إلى جرائمها فتحرقها وتتلف أسماء جواسيسها والمتعاونين معها ووكلائها، ولكنها نسيت قبل ذلك أن تحرق كل جثث المعذبين والمعوقين والذين دفنوا أحياء من شعب العراق والذين سيجدهم أهل العراق عاجلاً أم آجلاً، والشهداء والمغدورين في عمليات الاغتيالات خارج العراق، ستبقى الكثير من الأدلة والأسانيد التي تثبت أن ما مر بشعب العراق لم يكن يخطر ببال التاريخ ولا في صفحات الزمن الأغبر الذي استطاع في غفلة منه أن يستحوذ على السلطة أشباه الرجال الممتلئين بالعقد النفسية وجوع الروح، فحولوا العراق إلى محرقة يحترق فيها أهله بنيرانهم ويذوبون بالحوامض التي أعدوها لهذه المهمات وينشرونهم بالمناشير الكهربائية ويصعقونهم بالصواعق الكهربائية أو بضربات العصي المكهربة وفي أساليب التعذيب النفسي العالية التأثير، ثم فوق هذا يسومونهم سوء العذاب ويذلوهم ويستعملون معهم أخس الأساليب الإنسانية في التحقيق النفسي وذلك باغتصاب الزوجات والأخوات والبنات أمام أنظار ذويهم وقتل الأطفال أمام أنظار المعارضين أو حجز الأمهات العجائز والشيوخ كبار السن مدداً غير محددة في سجون المجرمين العاديين.
إنهارت المؤسسة الأمنية مع انهيار السلطة الصدامية، وسجلت أطول فترة كالحة ليس في تاريخ العراق، وإنما في تاريخ المنطقة العربية، وقد لا أغالي إذا قلت أن التجربة التي خاضها العراق في ظل المؤسسة الأمنية التي أنشأها الطاغية المباد صدام لم يكن لها مثيل في كل الدنيا. ويقينا أن الله سبحانه وتعالى يؤكد أنه يمهل ولا يهمل فقد سلطة على السلطة المطبقة على خناق العراق، قوة أكبر منها وأقوى منها فقضت عليها وانقضت حقبة مليئة بالمرارة والدموع والخوف والهموم والحزن والموت والعذاب والموت البطيء في زنازين تحت الأرض أو لا يعرفها غير سجانيها، وضحايا بلغت قوافل من الشهداء بحجم المحنة الكبيرة التي عاشها العراق بعد أن أطبقت قوى الشر على كل مفاصل الحياة فيه وأفسدت حتى الهواء والزرع والضرع في العراق الذي كان جميلاً وحميماً. وإذ ينزع العراق زمناً أسود مليئاً بالخوف، فإنه يطمح بحياة خالية من الخوف والرهبة والقلق والتوجس، حياة خالية من ملفات الأمن والمخابرات والأمن الخاص والأمن العام والاستخبارات وتقارير الحزب المباد والجيش الشعبي وجيش القدس وفدائيي صدام، حياة خالية من ضباب الشك وأوهام الريبة والتوجس والمراقبة والخوف من الانتقاد وقول الرأي الآخر.