بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق برزت الحاجة الضرورية لكتابة مسودة دستور عراقي يوضح الأسس التي تقوم عليها مرتكزات السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، مثلما يرسم شكل الدولة ويثبت حقوق وواجبات المواطن التي غابت في نصوص الدساتير السابقة، ويؤكد هذا الدستور على التساوي بين العراقيين بغض النظر عن الدين أو القومية أو الجنس أو المعتقد السياسي فعلا لاقولا.
فالدستور يرسي دعائم العملية القانونية للسلطة بشكلها العام وفق الاطر التي تؤمن بها السلطة، ويرتب أمور البيت العراقي الذي امعنت السلطات المتعاقبة في تخريبه وتهديم اجزاء مهمة منه، واستخفت بنصوص القوانين وبنصوص الدساتير المؤقتة، والعبرة كما نفهم ليست في النصوص الواردة في الدساتير أنما في التطبيق والالتزام. وحتماً تناخى كل اهل العراق من أجل بذل الجهود للخروج بصيغ متنوعة للدستور يتم طرحها على الأستفتاء العام لأقراره بصيغته النهائية والشرعية حتى تم اقرار الدستور.
ومع كل النقائض والنقائص التي وردت في عدد من النصوص في الدستور النافذ، الا ان الامل كان في ان تنعكس التجربة والحاجة الموضوعية لتشذيبه وتصحيح ما اعتراه من خلل، اعتمادا على فقرات المادة 142 التي تتيح لمجلس النواب اصدار التوصيات بشان تعديل نصوص الدستور، الا ان حالة الأرباك وعدم الثقة بين المكونات العراقية والحذر ضمن المرحلة الزمنية التي عاشها العراق بعد كنس سلطة الدكتاتور وبقاء شراذم النظام وبعض الزمر المأجورة طليقة ومنفلتة، مع عدم إنكار وجود فئة قليلة فهمت أن أسلوب القتال بالسلاح هو الطريق المناسب لرحيل القوات المحتلة ومارافق وجودها من قرارات مجلس الأمن الدولي، مما زاد المشكلة تعقيداً وإرباكا وامعن في زيادة التباعد، وهذا ما أدى بالتأكيد الى أطالة أمد فترة الاحتلال التي سعى الجميع الى أختزالها ببناء أسس الدولة والدستور في ظل السيادة الوطنية.
وقبل كل هذا كان النظام البائد قد ارتكب العديد من الجرائم الإنسانية والوطنية، وخسر العراق الملايين من خيرة أبناءه ورجاله، وأرتكبت زمر معروفة ومشخصة لعدد من هذه الجرائم مما استوجب أن تتم محاكمتهم وإنزال العقاب القانوني العادل بحقهم بمحاكمات أصولية يتولاها القضاء العراقيت، إلا أن إرباكا أخر تجسد في ربط المحكمة الجنائية العراقية العليا برئيس الوزراء وهو موظف تنفيذي في حين نصت المادة (95) من الدستور نفسه على حظر انشاء محاكم خاصة او استثنائية، وكل محكمة مهما كان اسمها تخرج عن نطاق تكوين السلطة القضائية تعد غير مؤهلة لأن تكون جزء من جسد القضاء العراقي. وطيلة السنوات العجاف التي مرت على العراق كان الطاغية يزيد الخناق على أعناق العراقيين عن طريق أصابع وأيادي يستخدمها الجلاد وسائل للإطباق على رقابهم فيسمم حياتهم ويعقد ايامهم ويزرع الخوف والرعب في جدران بيوتهم، هذه الأصابع والأيادي من بين أبناء شعبنا العراقي نفسه وأن كان القليل منهم من الأشقاء العرب، البعض منهم أتكأ عليه الطاغية وعده معبراً والبعض الآخر وظفه للترويج والتطبيل والآخر أيضاُ للدفاع عنه بشتى الأسباب والأساليب.
سنقف أمام حالة لابد من أن تكون رؤيتنا نافذة وثاقبة ومستلة من واقع معاناة شعبنا العراقي، وكذلك مصحوبة بالشجاعة والجرأة والأرتفاع على الجراح العراقية، تلك هي حالة العفو والمصالحة مع العناصر التي لم يصل فعلها الى ارتكاب الجنايات أو من الأفعال التي يمكن قبول المصالحة فيها، ويقيناً أن الملفات الخاصة بالضحايا هي التي ستشير الى خصوصيتها الوطنية مما يجب الأنتباه الى ضرورة عدم تسيس ملف الضحايا، وأن ندعو جميع أهلنا في العراق أن يتناسوا جراحهم والآمهم قدر الأمكان من أجل أن نخلق طريقاً جديداً يستطيع فيه من أخطأ أن يجد له محلاً في الحياة الجديدة وأن يتعرف على فداحة الخطأ المقترف وابتعاده عن طريق الخير بعد أن يعتذر ويطلب الصفح من شعبه وأهله. التجارب في هذا المجال عديدة وقريبة، ولعل هذه التجارب تكون دروسا يمكن الاستفادة منها وإيجاد الوسائل التي تنهي معاناة الناس في بلد ممتليء بالجراح والقهر والبؤس مثلما يمتليء بالثروات المستباحة.
أن ضرورة التفكير في قانون للمصالحة الوطنية كان يفترض ان يكون قبل أعداد مسودة الدستور حتى يمكن أن يجعل الماء الراكد صافياً، وأن يجعل الأخوة تتعانق وأن تسمو المقدرة وفعل الخير على فعل الثأر والأحقاد والضغائن والاتهامات الجاهزة والبعيدة عن الوجدان والمروءة، فثمة من يحتاج لهذه اللمسة وثمة من يحتاج لإطفاء تأجيج النار في صدره او تخفيف لهيبها، وثمة من يستطيع أن يتفهم العفو ويتنازل عن حقوقه الشخصية وثمة من يقدر على الأرتفاع والتصافي من أجل الوطن والمستقبل وصولاً الى أجواء عراقية خالصة نستطيع معها أن نبدأ خطواتنا الأولى في الديمقراطية والمجتمع المدني والسلم الأهلي.
ويمكن أن تكون المآثرة التي سجلها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في العفو عن القتلة والغادرين مع اقتداره وقوته على الاقتصاص منهم، وعدم قدرة الصغار والقتلة على ممارسة هذه الأخلاق معه عند إقتدارهم بسب قدرته على الارتفاع وعدم قدرة الآخرين على أن يصلوا لمصاف وقدرة الشهيد على السمو بالنفس الى حد العفو وإطلاق مبدأ ((عفا الله عما سلف)).
وبدلا عن ذلك أصر القائمون على كتابة الدستور تضمين نصوص حظرت على شريحة من الناس العمل ضمن العملية السياسية (المادة 7 من الدستور)، وكالت السلطة بمكيالين حين رفعت الحظر عن شخصيات مشمولة بالأجتثاث لتدخل العملية السياسية لأسباب لم تعد خافية على المدقق والمتابع الحصيف، واللافت للنظر انها تجاوزت الكيانات ذات النهج الطائفي او العنصري او التكفيري واكتفت بالبعث الصدامي وهي لاتقل عنه خطورة.
كما ضمنت المادة 135 من الدستور اعتبار هيئة الاجتثاث ومن ثم المسائلة والعدالة باعتبارها هيئة مستقلة وربطتها بمجلس النواب، بمعنى استمرارها بالعمل وفق الضوابط التي وردت في قانون الهيئة، ولم تزل تستمر بعملها حتى اليوم مع ان نص الفقرة ثانيا من نفس المادة منح مجلس النواب الحق بحل هذه الهيئة بعد انتهاء مهمتها وأن يكون الحل بالأغلبية المطلقة، غير ان القانون والدستور لم يبينا الالية والفترة الزمنية والضوابط التي تنهي مهمة هذه الهيئة، كما لم يناقش مجلس النواب خلال دوراته المتعاقبة هذه الناحية خشية من الاتهامات الجاهزة التي تكال لشخص المقترح.
نحن بأمس الحاجة الى التصافي وحقن الدماء وفتح الصفحة الجديدة للعراق الجديد حيث كانت مشكلة العراق الطغيان والأستبداد وليس ثمة مشكلة في أفكار ومذاهب وقوميات واديان يعتنقها شعبنا، مشكلتنا الأساس في مخلفات الدكتاتورية التي رحلت دون رجعة، وتركت اثارها وندوبها في ارواحنا وعلاقاتنا، ولذا اصبح لزاما علينا أن نعالج أوضاعنا الداخلية قبل اوضاعنا الأقتصادية، وان لانغرق في وحل الطائفية المقيتة التي تتعكز عليها أحزاب وشخصيات، وأن لاننشر ثقافة الكراهية والثأر بين اجيالنا القادمة، وحل الوقت الذي نتعايش فيه بأخوة حقيقية وبمحبة وبتصافي يصل الى مستوى الفجيعة التي حلت بالعراق، وبمستوى المحنة التي طحنت كل أهل العراق، حتى نتفرغ على الأقل للمساهمة الجادة والحقيقية في بناء أسس عراقنا الجديد.
مع ان الدستور العراقي نص في الفقرة اولا من المادة (45) على حرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها ودعم استقلاليتها وبما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لتلك المنظمات، فأن الدور الفاعل والمؤثر لم يزل لايلقى الدعم والأهتمام الكافي.