كنا معاً في قطار الناصرية النازل حين شممنا رائحة الهيل في قهوة المضايف العبقة التي تملأ صدورنا قبل ان نصل الى محطة (المكير)، وكنا نشم سوية رائحة الدم المتدفق من جسد صويحب الذي لم توقفه العطابات المحترقة وبقي ينزف كما العراق.
كنا معاً نمسك بالمسحاة والفالة نشمر عن اثيابنا نتحزم بها، ثم ننحني وعيوننا شاخصة نحو الأفق بعيون مفتوحة الحدقات كعين الذئاب تحرسنا من أعين السلطات الغادرة، ثم ننحني ونحن وسط ماء الهور الطاهر نقلع شتلات الشلب الممتليء برائحة ارواحنا وتعبنا الانساني وبيدنا المناجل السومرية المتقوسة نؤشر بها علامة الحياة، نركب زوارقنا اللابطة بين تجمعات القصب اللاهث فوق صفحة هور الغموكة، او بين ثنايا الجبايش نتلقى صرخات الطيور التي جائت من أقصى الأرض تنشد الدفء والسكينة، ونتلقى تحية السمك النهري الراقص أمام اعيننا في صفحة الهور على ضفاف الفهود وهو يعاكسنا بظوره المفاجيء وغيابه عن اعيننا. كنا معاً ننشد للريل الذي يقطع المسافة فوق سكة ارواحنا نتبعه عبر بوابات المحطات التي صارت رسوماً في ذاكرتنا، والمتوزعة بين تل اللحم وجسر بربوتي والنغيشية والرميلة والشعيبة وحتى (خمسة ميل) وبيوت الفقراء المتداعية من طين العراق وقصب الاهوار والعائمة وسط برك المياه الآسنة.
كنا معاً في العنبر الخامــس من سجن الحلة وحفرنا سوية نفق الحرية بأظافرنا وملاعق الطعام، كنا معاً نردس بهوسات عراقية ندك الأرض بأقدامنا وأيادينا مرفوعة كالبيارغ ترف فوق الرؤوس التي يئز من فوقها الرصاص، وكنا معاً نحلف لسعود انه بيرغ الشرجية وأن يشاميغ الثوار تبرق كالنار، كنا معاً نملأ انظارنا من شناشيل البيوت البغدادية وبساتين ديالى وحزن النوارس فوق دجلة الخير في الصباحات الحلوة، وفي طعام الفلاحين المداف بتعبهم الأنساني، وكنا معاً زنبقة وبندقية برنو في جبال كوردستان العصية.
كنا معاً نتابع ما يجول بخاطر هذا الشاب البغدادي المترف الذي جاء الينا عبر محطات الجنوب من جانب الكرخ ببغداد حاملاً تاريخ عمره المتوافق مع تاريخ ولادة أعرق الأحزاب العراقية التي تكللت جباهها بالنضال والتضحية في العراق فصار جزء لايتجزأ منها.
يقول انه مظفر بن عبد المجيد بن أحمد بن حسن بن أقبال بن معتمد النواب وأنه مولود في كرخ بغداد عام 1934.
ونسأله من اين التبست روحك بمفردات القصيدة والكلمات المتخمة بالمفردة الشعبية؟ ونسأله من أين استوحيت كل هذه الصورة التي تنزعها من بين ثنايا أرواحنا الغارقة في هور الغموكة أو في سجون البصرة والحلة او نقرة السلمان أو في عربات القاطرات الحديدية، ومن تعب الأهتزاز الرتيب منها، أو في زوايا المضايف التي تعج بالرائحة العبقة التي تنضح منها أجساد الرجال؟
من أين تستمد رائحة الهيل وطعم ماء الورد في كلمات القصيدة وأنت ابن المدينة التي لم تتداول المفردات التي لا تشبه مثلها مطلقاً؟
بل وفي العديد من المفردات ما تقوله لا يعرفه الا من غطس في شواطيء الهور واطراف المدن الحالكة الفقر وشديدة الحزن والبعيدة عن خارطات المدن والجغرافية؟
من أين تأتي بالأحاه والمجعة وغطار الليل والخزامة والعطابة؟ من أين؟
كنا معاً حين رسم مظفر هلهولته الشعبية في الهواء الطلق، لتتلقفها مجلة المعلم الجديد في الخمسينات لتشكل معلماً من معالم حركة التجديد في الشعر الشعبي العراقي، ثم لتشكل الخطوط العريضة والبارزة لمدرسة من اهم المدارس الشعرية الشعبية في العراق. ومر حمد بقطار الليل وسمع مع صوت صرير العربات دقات القهوة وسط الهاون، ووصلت انفاسه رائحة الهيل، ولاادري لماذا اقترنت في مخيلتي صورة البيت المذكور في محطات تل اللحم والأرطاوي حين يستبيح القطار سكون المكان، وحين تفض العربات الهدوء الذي يعج بالزمن في اول الغبش حين تنطلق القبرات من أعشاشها بأتجاه السماء فارة من ضجيج القطارات النازلة أو الصاعدة، يصحو معها انكيدو حاملاً معه النار وازميل النقش فوق الصخور.
دافئة كلمات القصيدة رغم كل القهر الذي يطلقه ((الريل)) وينفثها من صدره دخاناً اسود، غير انه يتلاشى في السماء حين تصير السماوات كلها قهراً وعذاباً يتجسد في عذابات الفلاحين وجوعهم وقهرهم وسعالهم وبؤسهم وترنمهم بالشعر والغزل والهوسات التي تنقلهم الى عوالم اخرى.
دافئة كلمات القصيدة غير ان العشق يبقى الصورة الأزلية التي تحكم أحاسيس الفقراء، وحين يعشق الفقير ليس له الا ان ينفث روحه شعراً، ويصرخ شعراً، ويحكي شعراً، يصيرها هوسات أو أبوذية، مأتما أو محنة، حتى أن القطار الصاعد والنازل يصرخ شعراً، مع أن القطايا لم تزل غافية تحت سنابل القمح، مطمئنة ومنسجمة مع تراتيب حركة عجلات العربات فوق السكة الحديدية، وهي تدرك ان لاغيرها طريقاً للقطار في العراق.
كلمات القصيدة تدرك انها تليق بحمد وليس لغيره، وان الكلمات تحمل كل وجع وإحساس الفقراء، فترتجف في الفجر مثلما ترتجف النهود عند حركة الليرة المعلقة بين اكتظاظ النهد في اول الغبش.
لم تكن القصيدة مثل باقي القصائد، ولاسارت على الطريق التقليدي، ولا التزمت ببحورها واشكالها، غير اننا نشعر بمذاقها وحلاوتها الشعرية وغورها في اعماق ارواحنا، نطرب لكلماتها، غير اننا نحتار في صورتها. ويقف أمامنا ((حمد)) بكل قامته المهيبة يوزع فناجين قهوته من دلاله المصبوغة بلون الحزن كأرواحنا التائهة بين رمال الزبير والشعيبة ونقرة السلمان وقاعات سجن الحلة، يكتم كل مشاعره ويحاول أن ينشغل بعطاء القهوة المرة كمرارة الحياة العراقية، غير انه يخزن في أعماق روحه عشقاً لا تتسع له الدنيا، تلك هي قصيدة ((للريل وحمد)) التي كتبها وعاش دقائق صورتها الشعرية الشاعر مظفر النواب.
مسكوناً بالمفردة الشعبية، متلبساً بعادات عشائر ازيرج وسعود، ممتطياً جواده متنقلاً بين مضايف عشائر الجنوب، لا يحمل سوى عصاه مهابة وترفعاً، راكباً زوارقاً ومشاحيف يحمل روحه بين أصابعه واقفاً بشموخ فوق الجبايش العائمة في هور الغموكة او الطار أو الحمار أو الفهود او كرمة بني سعد.
ليس دون علاقة روحية أزلية ترتبط بها روح الشاعر العراقي المهيب مظفر النواب مع الهور، فقد رحل في زوارقه وماطوراته قبل ان يصله، ورحل بين بيوت القصب وبين ثنايا غابات البردي دون ان يقطع تذكرة، وغفا بين بيوت الفلاحين الفقراء وأكل من خبزهم وتسامر معهم، وحاكى الأقطاع والدم والخزامة والرصاص والجروح التي يمتلأ بها جسد صويحب المتحزم بمنجل الحصاد الذي يبقى طالباً بثأر صاحبه الذي يختلط عرقه الإنساني بتعبه بدماءه التي تصبغ لون مياه الأهوار في جنوب العراق.
من شريعة النواب الى حافات الهور، ومن مدن الشناشيل الى مدن القصب، ومن مجامر القهوة وترقب الطير في هدأة ليل الهور الى صخب المدينة التي تعج بالأحلام والضوضاء والعنفوان، ومن شرائع الأقطاعيين الى قيم المجتمع البغدادي، ومن الأكف الترفة والملساء الى ايادي الفلاحين والصيادين الخشنة وأقدامهم المتشققة ووجوهم التي عافتها الشمس وترقبهم الليل بجفون يملأها الملح والسهر والترقب.
ومن أيام المزبن التي انقضت مروراً بأيام التتن التي ستنقضي مع رجيف الدف والجسد الغجري الراقص على انغام المحمداوي الممتليء بحزن الكون، او على ازهيريات الجنوب الممتلئة بالحكمة، او في معاني (الحسجة) المعاني الدفينة التي تمتليء بها أمثال وأشعار النساء والرجال.
ويمسك مظفر النواب بمفتاح زمان الأزمنة، فيتواصل أبداعه في معاني وقصائد وقلائد من الكلمات التي تنتشر كالبرق في ليل العراق البهيم، فتصير القصائد مناشير سرية، ومبرزات جرمية يتباهى الشباب بحفظها عن ظهر قلب، وتقلبها المجالس العرفية ومحاكم امن الدولة ومقرات الأمن والمخابرات وتكتبها في محاضر الأتهام وقرارات التجريم والحكم، فتصير للنادمين سلواهم، وللسجناء شريكهم في ليل السمرفي القاعات الرطبة والمكتظة بأنفاس الطيبين، وعند البنات الحلوات كتيبات تندس بين النهود اليانعة، وأناشيد عند سفرات الشباب وفي مزارع المدن القصية.
ويأتي القيظ وبعده الشتاء ولا أمل ولاشيء يشبه الضوء، ونخسر من أعمارنا والشتاء يحمل حاله ويعبر من جانبنا بهدوء وصمت، ثم يزداد الشعر لوناً فضياً، ولا ريل يمر على السدة، ولكن الانتظار يخلق الشوق، ومن خلال هذا الشوق نشعر بمعاناتنا الآنسانية، ثم نسأل شتاء العشاق عن خبر عنهم أن كان يعرفه، لكن الروح باقية عوسجة ظل وعذاب وصبير وحنظل وعلقم، ثم تصير هلهولة عرس وتباشير فرح.
وتنتشر القصيدة بين بيوت العراقيين تلتصق بضمائرهم، وتشتد التصاقاً حين يهمس مظفر كلمات قصيدة البراءة، سواء منها صورة الأم التي عاتبت ولدها ((يبني ضلعك من رجيته لضلعي جبرته وبنيته))، او الأخت التي قرعت شقيقها لتخاذله ((خوية كابلت السجن حر وبرد ليلي ونهاري))، صارت القصيدة معلماً من معالم الشعر العراقي الخالد وحفظها جيل لم يزل يترنم ويتباهى بها، وفعلت القصيدة فعلها الكبير في زمن عراقي صعب، وتحولت الى ملحمة من ملاحم العمل السياسي في العراق.
ثم صار زمان ((حجام البريز)) وهو فلاح من اهل هور الغموكة وأخته سعيدة وحجام الذي كان يواكح السلطة كأنه يد تسبح دون اصابع، ويجسد علاقة الأرض بالأنسان وبالسلاح الذي يقاوم به الحكومة دون ان يمشي بأطراف الهور ودون أن يغفل.
ومظفر المقتدر على الغور في اعماق ارواحنا يستل منها تعابير تنام وتغفو في ثنايا الصدور شفافة مثل اجنحة العصافير تتراقص مثل الاقراط زاهية مثل مقاهي الشط والجسور العتيقة وماذن الجوامع الشذرية والدعبل وشريعة الشاطيء وشيلة الامهات ورائحة الخبز العراقي الذي يختلف عن خبز الدنيا وبساتين لها طعم الجنة ورطب لايشبه تمور العالم لو اجتمعت كلها، وشبابيك تطل من بيوت ملتصقة روحا وشكلا، وحزن مرير يفطر الروح قبل القلب وسوس ينخر الناس قبل ان يأكلهم الجوع، وعطش مع ثلاثة انهار ومطر لا يبلل الشفاه وغيوم لا تترك افيائها فوق رؤوسنا، غير أن لكلمات مظفر النواب طعم التين في اول الغبش ومذاق النبك العراقي وحلاوة التمر التبرزل أو البرحي ورقة الرازقي الذي يوزع رائحته دون ان ينام، وحلاوة لن تجدها بين حروف الكلمات التي ينقشها مظفر فوق الضمائر أو يطشها هلاهل فوق الرؤوس أو يسربها الينا طافية فوق صفحة الماء تنيرها شمعات تحرق ارواحها فوق صفحة الماء يحرسها خضر الياس، تتمايل يمنة ويسرة وترقص مع موجات الشواطيء جذلة بأحتراق روحها. اليوم مظفر النواب وهو يتخطى الثمانين من العمر باربعة اعوام آن لروحة التي اعطت كل ما عنده للعراق أن تستريح!!
اليوم مظفر النواب بعد أوفى بنذره للعراق وأفلح في أن يجعل كلمات قصائدة جزء من نضال الشعب العراقي، تلهج بها الثوار أناشيد متخمة بالثورية والاصرار، وتنشدها الأصوات الجميلة أغان وكحل وربابة، وتترنم بها أصوات الشابات العراقيات المملوحات للعشق والمحبة، وفوق كل هذا تجسد لنا جزء مهم من تاريخنا المليء بالفواجع والحزن والدماء.
اليوم مظفر النواب بعد أن اكمل ما بذمته من دين للعراق وأنفق أكثر من نصف عمره أن لم يكن ثلثاه في غربة قاحلة يقول لنا:
((أه من العمر بين الفنادق لايستريح، أرحني قليلاً فأني بدهري جريح هذه الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت وحدها قدحي أصابح الليل مصلوباً على أمل أن لا أموت غريباً ميتة الشبح)).
فنقول له لن تموت غريباً يا أبا عادل فقد اوفيت وكنت الأبن البار الوفي للعراق، وتحقق حلمنا المشترك في سقوط الدكتاتورية، وحق لك علينا أن تلتفت لك مؤسسات العراق، وأن تلتفت لك الضمائر التي لم تزل تنبض بالمحبة وترسم باصابعها علامة المستقبل، وتحفظ اهازيجك وأشعارك وتترنم بها وتنشدها.
آن لكل اهل العراق أن يحتفلوا بوجودك وأن يتم تكريمك بما يليق بك فأنت شاعر الشعب وأنت الكلمة العراقية النابعة من ضمير اهل العراق، الكلمة المبللة برذاذ نواعير هيت وعانة وحديثة وشواطيء دجلة وشامخة مثل نخلات السماوة وناعمة مثل رمال السلمان وصلبة مثل جبال كوردستان.
اوجه كلماتي هذه الى كل اهلنا في العراق أن ندرك الرموز الوطنية التي نكاد ان نضيعها في غربتنا القاحلة، فنقول لاتضيعوا أخر الرموز العراقية، ولا تجعلوا الغربة تأكل كل ما تبقى له من الروح، فهذا مظفر النواب الذي لن نبادله بذهب الدنيا كلها، وهذا مظفر النواب الذي ستبقى كلماته ترن في ضمائر العراقيين مابقي العراق.