كما يقول التاريخ العربي كانت القبائل العربية تمجد القتال وتحتفل بالانتصار على القبائل الأخرى، وتتباهى تلك القبائل بفرسانها ومقاتليها الأشداء، وبالغ الشعراء في نفخ القبائل وحثها على القتال وممارسة الغزو كتعبير عن قوتها وقدرتها، وكانت الشجاعة تتمثل في القتال والقدرة على ممارسة القتل بالسيوف والرماح والخناجر والسلاسل، وانتشرت العصبية القبلية بين العرب حصراً، وكانت من أعراف العرب الانحياز الى القبيلة سيان كانت ظالمة أو مظلومة فصار عرفاً تلتزم به العشيرة، وتستعيد العشائر والقبائل العربية هذه الظاهرة التي استطاع الأسلام أن يخمدها ولكنها يبدو أنها كانت ناراً تحت الرماد، ليستعر جمرها ويتم تأجيجها في الوقت الحاضر، فيبرز وجهها الكالح الذي لا يتناسب مع الزمن الإنساني الجديد .
يقول المؤرخ الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام:
((وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للآهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة، أو العشيرة. ومن شروطها إن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له إن يتساءل:
أهو ظالم أم مظلوم، وهي ضرورية للقبائل، لأنها لا تستطيع إن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما انه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية.
وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب، ولذلك تجد عصبيات مختلفة. وتقوم العصبية الصرحاء والموالي والجيران. وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا وأقاموا في بيوت ثابتة، إلا إن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضاً، فتألفت المدن والقرى من "شِعاب"، وتكوّنت الشعاب من جماعات بينها روابط دم ووشائج قرابة. والشِعْب هو وحدة، وهو الذي يأخذ حق المظلوم من الظالم، و بظلامة من تقع عليه ظلامة.
وغالباً ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، وإذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبّت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب، هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة. وفي المعنى المتقدم من العصبية، ورد قول الشاعر: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظـالـم على القوم، لم أنصر أخي حين يظلَم فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته. وهي "النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة".
وفي هذا المعنى أيضاً ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول: قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهـم طاروا إليه زُرافات ووحدانـا لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم في النائبات على ما قال برهانا فهو يهبّ إذا سمع نداء العصبية حاملاً سيفه أو رمحه أو أي سلاح بملكه، وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ؟ فليس من العصبية والإخوة القبلية أن "تسأل أخاك عماّ وقع له، بل عليك تلبيَة ندائه و تقديم العون له، معتدياً كان أم معتدى عليه)).
ويبدي العربي تفاخره وزهوه بالانتصار على عدوه سواء كان أجنبياً أو عربياً مثله مهما كانت نتائج المعركة، والمتمعن في حروب الحدود التي قامت بين دول عربية يجد بشكل لافت للنظر أنها تتميز بكثرتها وتعددها.
ومنذ تأسيس الحكومات العربية المستقلة التي نالت استقلالها بعد احتلال أو بعد وقوعها تحت الوصاية والحماية، بدأت صفحة الحرب الأولى بين جيش ماسمي بالكيان الصهيوني ضد كل الجيوش العربية بما فيها المقاومة الفلسطينية آنذاك، والتي انتهت بتقسيم فلسطين ووقوع جزء منها تحت سلطة شرق الأردن وقسم آخر تحت سلطة الحكومة المصرية، وصار العرب يبررون تلك الهزائم بأسلحة فاسدة وأوامر تحدد حركتهم وتفننوا في إيجاد العديد من التبريرات والمبررات التي تقنعهم بقبول الأمر الواقع، وصارت تلك الدولة الصهيونية، دولة اسمها إسرائيل نالت اعتراف الأمم المتحدة، وتبادلت علاقات شديدة السرية مع بعض القادة العرب، ولم تزل تتباهى العديد من الدول العربية بهذه العلاقات المتنوعة الإشكال.
وفي العام 1967 قامت حرب حزيران التي اشتركت بها العديد من أقوى الجيوش العربية ضد إسرائيل، ولم تكتف تلك الجيوش بالهزيمة النكراء التي لحقتها، وأنما فقدت العديد من أراضيها لتقع تحت الأحتلال الأسرائيلي، وبالرغم من مرور اكثر من خمسون عاماً على تلك الهزيمة لم يزل بعض المحللين يبررونها ويحاولون تغطية مالحق العرب من هزيمة مضاعفة، لم يتم محاسبة قادتها ولا استقال رؤسائها وزعماؤها، وبلع العرب طعم الهزيمة المرة تحت ذريعة القبول بالأمر الواقع، وتوعد أسرائيل بنصر قريب ورمي اليهود في البحر، واطلقوا تعبير (النكسة) على الهزيمة لأقناع شعوبهم.
وفي حرب تشرين 1973 خاض العرب حرباً شرسة مجتمعين ضد دولة أسرائيل، فخسروا إضافة لجيوشهم التي انهزمت أراض عربية جديدة، وتراجعوا ليعلنوا النصر من خلال هزيمتهم، ولم تزل جميع الأنظمة العربية تحتفل سنوياً بهذه الحرب الخاسرة وبنتائجها الكارثية وتسميها الأنتصار وحرب اكتوبر المجيدة وحرب رمضان المقدسة، غير أنها لم تستطع إن تسترجع ليس فقط الأراضي المحتلة، وانما أراضي الجولان وسيناء وشبعا والكرامة العربية معها.
وفي العام 1980 قامت الحرب بين العراق وآيران، وتطورت تلك الحرب التي قامت تحت ذريعة احتلال مناطق حدودية (زين القوس وسيف سعد)، وامتدت الحرب ثمان سنوات أكلت فيها من البشر والأموال ما لا يمكن تعويضه، وخسر بها العراق ليس تلك المناطق الحدودية، وانما مناطق ومياه وحقوق سيادية أخرى، وضعفت قوته العسكرية، وبعد أن توقف القتال احتفل العراق ولم يزل حتى سقوط النظام الصدامي في نيسان 2003 بالانتصارات المزعومة في هذه الحرب التي لم تزل منعكساتها ونتائجها باقية التأثير لحد اليوم. وفي العام 1991 قام الجيش الصدامي باحتلال أراضي دولة الكويت، وبالرغم من كل النداءات الدولية والتوصيات العربية، الا أن (القائد الضرورة) الذي لم يستجب لكل هذه النداءات بالغ في إمكانية التصدي لجيوش أجنبية وعربية التي قررت تحرير الكويت من احتلال الشقيق العربي، وبالنتيجة خسر الجيش العراقي مكانته وقوته وسمعته في هزيمة نكراء لم يتوقف النظام الصدامي من الاحتفال بها والتباهي على العالم بانتصاراته المزعومة على 30 دولة اشتركت في هذه الحرب رغم خراب العراق، كما لم يزل العرب يحتفلون بالشجاعة الفائقة والجرأة التي أقدم
عليها الدكتاتور العراقي صدام في أرسال صواريخ محدودة القوة والتأثير على الأراضي الأسرائيلية، وعدها العرب ضرباً من التفوق والشجاعة التي يتفاخر بها الشارع العراقي.
وحين أقدمت قوات التحالف الدولي على أحتلال العراق، هرب (القائد الضرورة) تاركاً جيشه وقواته وأجهزته الأمنية في مهب الريح، ولجأ الى حفرة وضيعة مع أسلحة شخصية و750 الف دولار، ولما تم العثور عليه وانتشاله من الحفرة سلم اسلحته ونفسه الى تلك القوات، طالبا منهم بتوسل شديد المحافظة على حياته، ولم تزل لحد اليوم الجماهير العربية تحتفل بشجاعة صدام تلك التي أظهرها لقوات الاحتلال عند القبض عليه في حفرته التاريخية وبمظهرة المليء بالخزي والعار.
الهزائم التي مني بها العرب لا تشكل وصمة عار فكل أمة من الأمم تنهزم أمام ظروف ذاتية وموضوعية تساهم في التسبب بتلك الهزيمة، انما قلب الحقائق والانتصارات الوهمية والتعاطي غير الحقيقي في الحروب على أسس من سحاب يدلل على مدى هيمنة الفكر المنتصر دائماً على العدو في الخيال.
فقد عرف العرب بالمبالغة والنزوع نحو الثأر والتفاخر بالماضي، ولم نسمع لحد اليوم أن العرب اعترفوا بهزيمة من هزائمهم، بل العكس فأنهم يحتفلون بهذه الهزائم على شكل انتصارات مزعومة، وسبق أن سقط العرب في براثن الأعلام الكاذب حين صور الإذاعي (احمد سعيد) الهزائم المريرة على أنها انتصارات كاسحة، وأستمر يذيع البيانات غير الحقيقية لهزيمة حزيران، وألتزم محمد سعيد الصحاف وزير أعلام صدام بنفس المنهج عند أحتلال بغداد وسقوط نظام صدام، كما أستمر من بعده ساسة وصحفيون وفضائيات تلتزم بنفس المنهج الديماغوغي في الاستمرار بخديعة العقل العربي وتمجيد الذات العربية التي بدت منتفخة ولكنها مجوفة.
يقول الشاعر نزار قباني: ( نقعد في الجوامع تنابلا.. كسالى نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثالا ونشحذ النصر على عدونا من عنده تعالى).
اما عمر بن كلثوم فيقول: ( إذا بلغ الفطام لنا صبياً تخر له الجبابر ساجدينا ملآنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملأه سفينا ) وليس مثل امة العرب من يتفاخر بالقتال ويتغنى بالرماح والسيوف والخناجر والموت والدم والغزو والغارات المفاجئة مع أنها من الأمم التي تم غزوها، وليس مثل أمة العرب من يتفاخر واهماً انه بقوته سيسود الشرق والغرب مع أنها أمة مقادة.
وأسيافنا في كل شرق ومغرب بها من قراع الدارعين فلول ورغم فاجعة الحروب التي تقع فأن العرب يطلقون عليها الأيام تخفيفاً لنتائجها، ولذا يطلقون على هزيمة حرب حزيران 67 أسم حرب الأيام الستة، كما تشتهر العرب بكثرة الأنقلابات، وأنقلاب العسكريين بعضهم على بعض حباً في الزعامة والرياسة التي يفتقدونها في حياتهم الشخصية، كما أشتهر العرب نزوعهم للأنتقام من الضعيف وتأييدهم القوي والطاغية ونصرته والهتاف بحياته، مع أن الأسلام نهى عن ذلك الا ان التمسك بمعايير الجاهلية التي لم تزل راسخة في النفوس ومستقرة في عمق العقل العربي، وربما يتم عزو ذلك قديماً إلى طبع البداوة الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان الى مكان وراء الماء والكلا، أما اليوم فيعزى ذلك الى سوء تصرف القيادات العربية وارتباطاتهم بالحكومات الأجنبية، وتمسكهم بكراسي السلطة ولو على حساب أمتهم وشعوبهم وكرامتهم.
وأما اليوم فلأسباب تتداخل فيها العديد من القضايا وليس أخرها التباين الحاد في الثروات بين تلك الشعوب التي تتشكل منها العرب، كما من بين اهمها تلك العصبية الشوفينية التي تزعم إننا خلقنا لقيادة بقية القوميات، واننا الحاكم الأقوى، واننا من يمنح الحقوق لبقية البشر، وأننا أحسن خلق الله وأكثرهم ذكاءاً، كما أن أشاعة ثقافة الدرجات القومية والتفنن في نشر ألأساليب الشوفينية في عقول الأجيال العربية وتخريب النفوس وانحطاط العقول في النظرة الى الإنسان غير العربي تحت شتى المزاعم والذرائع، ولد تلك العصبية الشوفينية العمياء، خلافاً لما جاء به كتاب الله حين كرم الإنسان دون أن يحدد قوميته وجعله مفضل على كثير من المخلوقات.
ويجد الباحث الدكتور جواد علي في تحليله لنفسية العربي أسباباً معقولة في ذلك فيقول:
((لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة.
أما خضوعها لحكم غريب عنها، فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى.)).
وهذه العقدة لم تزل حاضرة في وقتنا الحاضر حين نعتقد إن الأجنبي في العمل أكثر تقنية واتقانا من عمل العربي، كما أن الصناعات الأجنبية أكثر جودة وثقة من الصناعات العربية، بالإضافة والأكثر أهمية عدم لجوء الأجنبي للخديعة والاحتيال في القضايا الحياتية، بينما يلجأ العربي الى مثل هذا الأمر، واعتبرت هذه الظاهرة لصيقة بالمجتمع العربي بالوقت الحاضر بعد أن كانت بعيدة عنه في الزمن السابق، حيث كانت الوثائق والعقود والاتفاقيات تعقد شفاهاً والكلمة محترمة ومقدسة بعد أن ضاعت قيمة الكلمة وانحطت القيم والاعراف مقابل ارتفاع قيم المادة والربح والخسارة.