بتاريخ 23 أب 1921 صار العراق الحديث، وتم تنصيب الملك فيصل الأول المواطن الحجازي ملكا على العراق، والعراق الذي كان ولاية من ولايات تابعة قبل ذاك الى الإمبراطورية العثمانية مجموعة من شعوب وقوميات وديانات ومذاهب وأجناس ، خلطة لا تجد لها مثيلا، ونتاج هجرات واحتلالات وسلطات تعاقبت على حكمه. عرب وكورد وتركمان وفرس وأرمن وكلدان وآشوريين وسريان وشبك، يهود ومسلمين ومسيحيين وبهائيين وأيزيديين ومندائيين، سنة حنفية وشافعية وشيعة جعفرية وكاكائية، كل تلك الجماعات يتشكل منها العراق الحديث والذي شكلته وزارة المستعمرات البريطانية بعد مؤتمر القاهرة، عراقا ملكيا جرى تغييره بثورة شارك بها الجيش والشعب او بالانقلاب عليه عسكريا الى نظاما جمهوريا غير مستقر حتى اليوم. سنت خلال تلك الفترة عدة دساتير ثابتة ومؤقتة، غير انها جميعها عزفت عن التركيز على المواطنة، وتناقضت مع نصوصها تناقضا واضحا، حتى حل الدستور العراقي الأخير، والذي يؤكد ضمن نص المادة ( 14) في باب الحقوق والحريات من ان العراقيين يتساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، غير انه ينفي هذه المساواة بنص المادة (2 ) منه حين يجعل من دين واحد معين دون باقي الديانات العراقية جزء من مكوناته، فيعلن أن الإسلام دينا للدولة العراقية وهو مصدر من مصادر التشريع، ويتعارض مع النص، وحتى تصبح الدولة مسلمة عليها ان تلتزم بأركان الإسلام وهي الشهادة والصلوات الخمسة والزكاة والصوم في رمضان والحج الى بيت الله، والدولة شخص معنوي غير حقيقي وافتراضي لا يمكن أن يؤدي أي من هذه الأركان، وإذا كانت الدولة مسلمة فأين يكمن مفهوم المساواة مع غير المسلمين من العراقيين، وإذا كانت هذه الدولة تلتزم بمعايير الإسلام كدين وتعتبره أحد مصادر التشريع، فهل يوجد مكان لتشريعات اليهود والمسيحيين والمندائيين والأيزيديين؟ وهذه جميعها تتعارض مع الثوابت أو لا تنسجم معها، وعلى ضوء هذا التمايز الذي يتناقض مع مبدأ المساواة الذي أشار اليه الدستور يتم التعامل مع أهل تلك الديانات ، فلا يجوز ان يحكمنا منهم أحد، ولا يمكن ان يتحكموا برقاب المسلمين، ولا يمكن ان يكون من بينهم قاضيا أو رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء أو قائدا عسكريا لتعارض ذلك مع مبدأ دين الدولة، في إشارة واضحة الى التمايز والتعارض في مفهوم المساواة مع المواطنين من اهل بقية الديانات، والتي لن يمكن حلها الا بفصل الدين عن سياسة الدولة حتى يمكن ان تكون دولة المواطنة. بالإضافة الى التعارض والتنافر بين الفقرات التي اوردتها المادة ( 2 ) المذكورة اعلاه التي جعلت الاحكام الاسلامية الثابتة هي الاساس الدستوري ولا يجوز سن قوانين تتعارض معها، ومع تعارض تلك الثوابت مع مبادئ الديمقراطية والتي تعني الحرية الفكرية والسياسية دون تقييد ، فأن الدستور لم يجز سن قانون يتعارض مع تلك المبادئ، وكل فقرة تتعارض مع ما سبقها.
كما انها تتناقض ايضا مع نص المادة (42 ) التي منحت المواطن العراقي حق حرية الفكر والضمير والعقيدة، وهو الذي تم تحديد وتقييد عقيدته بدين واحد تلتزم به الدولة ومؤسساتها وقوانينها التشريعية، حيث تتحول حرية الفكر والعقيدة الى حرية الطقوس والشعائر. نفس الحال في التناقض الذي أكدت عليه المادة (9 ) والتي أشارت الى تكوين القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من انها تتشكل من (مكونات الشعب العراقي) بما يراعى توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، بل وأن الفقرة (ب) من هذا النص تؤكد على حظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة، ومع أن البلد يعج بالمليشيات المسلحة، التي تنسق مع الحكومة أو التي تنفلت عنها، موجودة على الأرض والواقع، وهي تشكل تحديا ملموسا على الواقع العراقي المعاش، لكل جهة جيش مدجج بالأسلحة مستعد أن ينازل القوات المسلحة ويتحداها ويقاتلها وهو جاهز في اية مناسبة أو لحظة للنزول الى الشارع العراقي.
ويفترض بالقوات المسلحة أن تكون لكل العراق، وهذا الافتراض في حال أن يكون الولاء للوطن لا للطائفة أو القومية أو الدين أو الحزب، وحين تقوم القوات المسلحة بتأدية الشعائر الدينية لطائفة معينة فأنها تلغي تلك الاستقلالية، وحين تلتزم القوات المسلحة بأعياد ومناسبات دينية لطائفة دون أخرى فإنها تبرهن على ولائها للطائفة وليس للعراق الوطن وحين يتم استغلال المؤسسة العسكرية لتكريس الطائفية والفرقة فأن الأمر يؤدي الى تجحفل العسكري ضمن حيز محدود لا يمكن ان يكون وطنيا ولكل العراق. حين تتحول العقيدة العسكرية الى الأيمان بالطائفة فأن الخلل الذي نشأ في زمن صدام حين قام بتحويل المؤسسة العسكرية الى الولاء الشخصي له يعاد انتاجه، فخسرت القوات المسلحة الأيمان بالعراق، والقدرة على التضحية، والثبات على مبادئ وعلى قيم القوات المسلحة، ولهذا ترك الجندي والضابط سلاحه وعتاده وآلياته في ساحة المعركة، لافتقاده للأيمان بعدالة المعركة، وافتقاده لإحساسه بالمواطنة، وافتقاده لصدقية العقيدة العسكرية، ويتكرر اليوم نفس المشهد حين يترك الجندي والضابط حتى ملابسه العسكرية لانعدام احساسه بالمواطنة والشراكة الحقيقية في وطن يفترض انه يمنع العسكري والقاضي من العمل السياسي، ويفترض أن يكون الجيش والأجهزة الأمنية لكل العراقيين، ويفترض ايضا ان تكون قوات البيش مركة فصيلا من فصائل القوات المسلحة، تدافع عن العراق الاتحادي بما فيه كردستان العراق، مثلما يتوجب على الجيش الدفاع عن كردستان والعراق ككل، في عراق تمنع فيه تشكيل المليشيات المسلحة قطعا باي شكل من الأشكال حتى يمكن ان تكون دولة المواطنة.
ولهذا فنحن احوج ما نكون لدولة المواطنة، الدولة المدنية التي تعتمد المساواة الحقيقية للإنسان دون أي اعتبار لدينه او لقوميته او لمذهبه، دولة تتشارك بها جميع القوميات والمذاهب والأديان ليس وفقا لقياسات الأقلية والأكثرية، إنما وفقا لمبدأ الشراكة الإنسانية في الحياة والانسجام وفقا لمبدأ المواطنة.
نحن بحاجة ماسة لأي مكون من المجتمع يشعر بأن هذه الدولة والدستور لا يغبنان حقوقه المشروعة والمشتركة، وأنه جزء فاعل من هذا البلد يتحمل الواجبات وتؤدى اليه الحقوق، وأن ذلك يدخل ضمن سلوكه وفعله اليومي، والكل سواسية أمام القانون، والمؤسسات والجهات الرسمية جميعها بخدمة المواطن دون تمييز، وأن تكون الاختلافات والنزاعات شخصية وليست رسمية ولا شأن للدولة بها.
اننا بحاجة ماسة لتحويل مؤسسة الدولة الى خدمة المواطن لا العكس، وتحويل المنصب الحكومي أو المركز الوظيفي (والذي يحكمه قانون الخدمة المدنية ) الى مركز لأداء الخدمة والتنافس على العطاء وتكليف يؤديه الفرد وليس مغنما ومكسبا للحصول على مكاسب ومغانم، واننا بحاجة ماسة لتجاوز الدولة الطائفية والجيش الطائفي، وبناء دولة المواطنة ضمان للاستقرار والمشاركة الفعلية بين كل هذه المكونات التي لم تكن تشعر بالمساواة والاستقرار منذ تأسيس دولة العراق الحديث وحتى اليوم.
دولة المواطنة تضمن حق العقيدة والرأي للفرد، وتضمن ايضا عدم تدخل الدين بالدولة، فللدين قداسته وحمايته وطقوسه الا انه لا يكون الغطاء الذي تتبرقع به السلطة، ولا الواجهة التي يحتمي بها السياسي. دولة المواطنة تضمن ايضا حق الآخر واحترام حريته وثقافته وعقيدته، وتعتمد ايضا على مسؤولية الفرد واحساسه المشترك في المشاركة ببناء المجتمع المدني القائم على حرية العقيدة والرأي والضمير، ونبذ العنف وعدم اللجوء الى القوة في التعامل، وان يكون حق التعبير عن الرأي حقيقة واقعة ويؤمن بها الجميع ويمارسها، بما فيها حق التظاهر السلمي والاجتماع وفقا للقانون وليس وفقا لإرادة الحاكم او السياسي. في دولة المواطنة يشعر المواطن بالانتماء الى الوطن، ويلمس مسؤوليته والتزامه بإداء واجباته، مثلما يلمس ضمان حقوقه، فيؤدي دوره ضمن الشأن العام بإحساس المشارك المستند الى قيم اجتماعية تلزم الجميع إحساسهم بهويتهم كدليل اكيد على مفهوم المواطنة، وكمواطنين ضمن وطن يلتزم بالحقوق والواجبات، ويشترك فيه الجميع فعلا دون استثناء.