تمكن التنظيم الإرهابي (داعش) من أن يضرب العاصمة الفرنسية باريس، فأوقع فيها ضحايا بريئة بإعداد كبيرة، وهذه الضربة الموجعة وأن لم تكن جديدة ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، إلا إنها تعبر حتما عن التجسيد العملي للفكر الدموي المتطرف، هذا الفكر بالأظافة الى تشبعه بالعقلية المتطرفة والإرهابية وتخلفه في العقيدة والفكر، فأنه يستمد ديمومته من منابع فكرية ومادية، وهذه المنابع تعرفها الدول الغربية قبل ان تعرفها منطقتنا المنكوبة بمثل هذا الفكر الوباء.
وفي اجتماع قمة العشرين حيث غلبت أحداث باريس على جميع المحاور والقضايا، واتفقت جميع الأطراف على محاربة التنظيم الإرهابي وأجتثاثه كليا، فكأنها تعيد ما سبق الاتفاق عليه في ضربات تعبر عن ردة فعل تجاه حركة الإرهاب الدولي.
داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية المتطرفة تمثل فكرا وعقيدة لابد من ان نتابع مصادرها الفكرية والمالية، ولايمكن لعمليات عسكرية أو ردود أفعال أو مؤتمرات ان تقضي عليها، مالم يتم تجفيف منابع ألإرهاب فكريا وماديا، ودون ذلك ستبقى نفس الحلقة تدور لتسمم حياة البشر في كل مكان.
صوت مجلس الأمن بالإجماع بتاريخ 12 شباط 2015 على قرار يقضي بتجفيف منابع تمويل المتطرفين والإرهابيين، فقد شمل القرار تنظيم ما يسمى بداعش وتنظيم النصرة في سوريا باعتبارهما من التنظيمات الإرهابية الإجرامية المتفرخة من تنظيم القاعدة الإرهابي والإجرامي.
أن المقترح قدمته روسيا وشاركت معها 37 دولة بقصد إيقاف الدعم والتمويل الذي تتلقاه التنظيمات الإرهابية، سواء كان الدعم من دول باتت معروفة للجميع أو من شخصيات أخرى، ومن منظمات بعض منها معروف وبعض منها يتخذ من أسماء وستائر لإيصال التمويل المالي واللوجستي للتنظيمات الإرهابية.
ومن المعروف أن هذه التنظيمات لا يمكن لها أن تستمر وتتمادى في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية مالم تتلقى الدعم المادي والمعنوي من جهات عديدة، من خلال تلقيها المنح والمساعدات أو من خلال التعامل والاتجار معها، حيث شملت فقرات القرار الصادر عن مجلس الأمن محاصرة التمويل الخاص بهذه التنظيمات، لذا يتحتم ان نكون صادقين وجريئين في تشخيص الفكر المتطرف والدموي والإجرامي الذي تعتقده وتؤمن به هذه التنظيمات،
وطالبت مجموعة الدول التي ساندت روسيا في تقديم مشروع القرار الى مجلس الأمن ومنها العراق، طالبت مجلس الأمن بتجميد الأصول المالية لهذه المجموعات والامتناع عن المتاجرة معها بشكل مباشر أو غير مباشر.
بالإضافة الى ضرورة ضبط تهريب الشاحنات التي تمر عبر الحدود التركية الى كل من العراق وسورية، بالإضافة الى متابعة وملاحقة الآثار المسروقة وحظر المتاجرة والاتجار بها، ومنع المتاجرة بالنفط عبر الحدود واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لمصادرة الشاحنات والقبض على المتاجرين مع التنظيم الإرهابي.
ومن بين أهم بنود القرار التوصية التي أصدرها للأعضاء بلزوم الامتناع عن دفع الفدية التي يطلبها التنظيم الإرهابي عن المخطوفين، وطالب القرار أيضا معاقبة الأشخاص والشركات والبنوك التي تتعامل مع التنظيمات الإرهابية بما فيها تنظيم القاعدة وأن تقوم بتجميد الأموال التي لها أية علاقة بالإرهاب.
وتعني عملية تجفيف منابع الإرهاب ليس فقط إيقاف تمويلها المادي، أنما تهدف الى تغيير الخصائص المنتجة لهذه التنظيمات الاقتصادية منها أو السياسية، والتعمق في معرفة أسباب إنتاجها وديمومة استمرارها وكافة الأشكال التي تدفع لبقائها، تجفيف المنبع أي التوصل الى عمق الأصل في ظهور هذه الظاهرة، وهذا الأمر لا يكفي أن يقوم به قرار من مجلس الأمن، مالم يقترن بعقيدة إنسانية تلزم أولا بعض الدول الحاضنة والداعمة للإرهاب، وان يتخذ الموقف الدولي في حال عدم التزامها او مراوغتها في تنفيذ القرار، كما أن إحالة الشخصيات والمنظمات الممولة والداعمة للإرهاب يشكل جريمة ضد الإنسانية، ومشاركة جنائية فاعلة تستوجب الإدانة والعقوبة.
أن تجفيف منابع الإرهاب يتطلب أيضا موقفا وطنيا من كافة شرائح الشعب، يتناسب مع تغيير الخصائص التي يتميز بها التنظيم الإرهابي، ومواجهته بموقف موحد يجعل فيه مصلحة البلد وحياة الناس وأمنهم بعيدا عن الحقد والكراهية والتمايز الديني أو الطائفي، موقفا يتطلب منا جميعا تخليص البشرية من براثن هذا الوباء البشري، في مثل هذا الموقف نتمكن من تجفيف المنابع العميقة للإرهاب واقتلاعه من جذوره في كل بلاد العالم.
ويأتي قرار مجلس الأمن ليعبر عن الإرادة الدولية للمجتمع الدولي في أن يكون له موقف أزاء ما يجري في العراق وسورية، وان يكون له موقف من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها التنظيمات المتطرفة والإرهابية المضللة، وأن يكون هناك ألزاما لجميع الدول الأعضاء أن يكون لها موقف ودور فاعل من قضية مصادر تمويل الإرهاب ودعمه ومساندته، وان تعي هذه الدول والشخصيات والتنظيمات المتطرفة خطورة ما يجري بحق الإنسانية، ومع أن هذا القرار جاء متأخرا متجاوزا المرحلة الزمنية التي استفحل فيها التنظيم الإرهابي وتمادت بعض الدول في مساندته وتسهيل تواجده، الا ان شمولية القرار لجميع التنظيمات المتطرفة والإرهابية يعطي بعدا وزخما آخر.
ان القرار الإيجابي لمجلس الأمن يشكل قاعدة أساسية يقف عليها المجتمع الدولي، وإلزاما قانونيا لجميع الأعضاء في المساهمة بتجفيف منابع الإرهاب سواء في دولهم او في الدول الأخرى، على أن يكون تصنيف هذه التنظيمات وفقا لما تسببه من ضرر جسيم وما ترتكبه من جرائم مهما كان دينها او جنسها أو لونها، ومهما كان أسمها، ولعل القرار يساهم في إنهاء وجود التنظيم المتطرف والإرهابي في المنطقة، على ان نضع أمام أنظارنا بأن خطر التنظيمات الإرهابية وأن كان متركزا على مناطق معينة في الشرق الأوسط، فأن خطره على الإنسانية جمعاء كبير وجسيم.
لذا فان توحيد ومضاعفة الجهود الدولية للقضاء على التنظيمات الإرهابية المتطرفة من جذورها الفكرية قبل المادية، والتوقف عن دفعها واستغلالها للمواقف والمصالح الدولية، وانعكاس تلك القرارات فعليا على الموقف الجاد للقضاء على هذه المجموعات التي تؤمن بالموت لكل ماهو جميل وخير في الحياة، وتستغل الدين في إغواء وإيهام الشباب لدفعهم الى الانتحار كبهائم مفخخة في أي وقت وفي أي مكان.