هذه حكاية من ذلك الزمن الجميل كما يحلو ان ينعته العراقيون، وحقيقة الامر لم يك زمنا جميلا قدر ما كان زمن زاخر برجال ونساء تحملوا المسؤولية ولم يتخذوا من المناصب تشريف بل واجب شرعي ووطني عليهم اداءه دون منة او فضل.
والتصدي للاحتلال البريطاني والكوارث وبناء قاعدة معرفية وعلمية للامة العراقية التي شبعت احتلالات وطالها كل انواع العذاب والخراب الاجتماعي والمعرفي والتشرذم الطائفي والمذهبي ومع ذلك استطاعت هذه النخب ان تقدم انجازات عظيمة للإنسانية وللعراق وبناء ما يمكن بناءه في تلك الظروف وانتعاش الثقافة بفضل تكوين الطبقة الوسطى.
اليوم العراق يعيش حروب ابادة قذرة من الارهاب العابر للقارات وضيق حال لم يشهده قط طيلة العقود العجاف والمميتة فبدا في نظر العراقيين الامس اجمل من اليوم متناسين ان الاجمل هو ما يعشه الانسان اليوم وما الماضي والتاريخ الا درس وعبرة لنتعلم منه تحسين ادائنا الانساني نحو الرقي والاستفادة من الاخطاء والبناء على الايجابيات والانجازات للعبور الى مستقبل افضل للأجيال القادمة.
لكن ما يحدث بالعراق نكوص عبثي بسبب عبثية السياسات للدولة ومن يتسلم زمام المسؤولية والادارة ولهذا يفتح الناس نافذة الماضي كهروب من الخسارات والانكسارات للحاضر المعاش وهذه كارثة اخرى ويكبر الحزن ويغرقوا فيه
ومن فضائل ذلك الزمن الجميل ان الساسة وعلية القوم كانوا يعيشون وسط المجتمع دون غرور او تكبر بكل تواضع ورفعة معا
) تواضع اذ مانلت في الناس رفعة ، فان رفيع القوم منه يتواضع) ...
هكذا كان رجال الدولة العراقية او معظمهم منذ تأسيس الدولة العراقية 1921 حتى بعد انتهاء العهد الملكي وقيام انقلاب 1958 استمر ت فلسفة الدولة بان الوظيفة العامة هي تكليف وليس تشريف ومن رجالات ذلك الزمن الجميل والرفيع بكل مقايس الذوق والاحترام والشفافية والعفة
السيد محمد الصدر” 1882م-1956م” احد الرجال الذين يحفظ لهم التاريخ مقام خاص وذكر طيب بين مخالفيه وموافقيه لانه رجل دبلوماسية وسياسة.
وسليل عائلة من العوائل العلمية والفكرية فوالده الكاتب والمفكر والمرجع الديني السيد حسن الصدر .
كان السيد محمد الصدر عضو مجلس الاعيان “ النواب “ ورئيسا له عام 1948م وشكل الوزارة 31 وقدم استقالته في 16 حزيران نفس العام بعد انتهاء الانتخابات في اليوم التالي. كان مهيبا محترما وقورا ومتمسك بمبادئه الدينية والوطنية.
انه فعلا كان زمنا جميلا اذا ما قورن مع ما يجري من ترهات وبشاعات ساسة الصدفة الذين اتى بهم الامريكان من المقاهي والشوارع.
وعرف الصدر بروحه الفكهة ومعاشرة العامة والاختلاط بمشاكل العامة والسير بالشارع دون موكب ولا تهليل او تطبيل كما يحدث اليوم انه كان زمنا جميلا
وعندما كان رئيسا لمجلس الاعيان مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وبعد انتهاء عمله في المجلس، كان يمشي سوق السراي التاريخي في بغداد العباسية والذي لا يبعد سوى دقائق عن مجلس الاعيان لزيارة اصدقائه في السوق وشراء المجلات العربية .في احد زياراته وجد ان محفظة نقوده قد اختفت، فادرك ان احد نشالة بغداد قد سرقها.
وهؤلاء النشالة لهم فصلهم مثل التنابلة والعيارين والقوادين الذين ويتواجدون في بغداد ويشكلون جزء من تاريخها الاجتماعي والسياسي والذاكرة البغدادية.
فاتصل السيد محمد الصدر بالمدير العام لشرطة بغداد “ علي الحجازي” قائلا : انا الان في سوق السراي. وقد سرقت محفظتي.. واعلم
!!! السارق هو انت ولدي عليك شهود.
فاجابه سيدنا بعد ساعة ستكون عندك.
واتصل المدير العام بمدير مركز شرطة السراي “ اريد اخراج النشال الذي مد يده في عب السيد من تحت الارض وتصلون محفظته له في سوق السراي.
وبعد ساعة وصلت المحفظة الى السيد مع الاعتذار عن تقصيره وتقصير الشرطة في اداء واجبها.
انه فعلا زمن جميل بل يفوق اعرق الديمقراطيات حينما كان تنتهي ولاية المسؤول ينزل الى الشارع ويعيش وسط ناسه وحينما يكون يقوم البرلماني باداء واجبه بحكمة وموعظة حسن كما فعل السيد محمد الصدر بادعاءه على مدير الشرطة العام لبغداد وحمله المسؤولية، انها رسالة بان منصبك مسؤولية لحماية الناس وردع المجرمين وليس شرف لك دون شرف المسؤولية التي ارتضيت القيام بها.
انه الزمن الجميل لا يقارن بعبث اليوم الذي تضرب فيه عشرات المفخخات والاحزمة الناسفة بغداد ولا يتساءل عنها غفير او مدير وتضيع مدن كاملة ولا نعرف من المسؤول ويذبح الاف الجنود وطلاب سبايكر ولم نعرف من القائد المسؤول انه زمننا البشع الذي اصبح فيه النشالة والقوادين والجواسيس في البرلمان والحكومة.
ذلك زمن جميل بشرف وامتياز حينما كان الانسان انسان والمسؤول مسؤول مع كل المحن والكوارث وفقر الحال.