عبدالمنعم الاعسم
ثلاثة اسباب تجعلني احتفي بهذه الصحيفة العراقية المهاجرة.. بانوراما.. في ذكرى صدورها وصدور عددها السنوي الممتاز، وقد اسميتها العام الفائت، وما زلت اراها "رغيفا خبز شهيا".
السبب الاول، هو مذاقها العراقي العذب، فيقال عنها كما يقال عن ابنة السنوات السبع انها "مملوحة" إعجاب فصيحا بحلاوة ايحائية آسرة، فيما تغرف عذوبة من هذا الليلك الاسترالي الوارف الذي ياخذ صفحاتها بخفة الى نزهة في الحقول والفضاءات والسواحل والبشر الحلوين، وتحرص وداد فرحان ان تضع فصا من الياقوت على صدر الصفحة الاولى من كل عدد من اعدادها.
والسبب الثاني الذي يجعلني احتفي ببانوراما هو عنادها العراقي المحبب بالاستمرار المواضب على الصدور في المهجر فيما تتصدع مفردات السلطة الرابعة في الوطن الام من مسموعات ومرئيات ومكتوبات او انها تحتضر تحت طائلة العوز والتقشف والحصار، فبعضها مات وبعضها ينتظر، والرهان على الشجعان من ابناء المهنة، ليمنعوا من تشييعها الى مثواها الاخير.
اما السبب الثالث، فانه يتعلق بتوقيت صدور العدد السنوي الخاص من بانوراما مع نهاية العام وبدء عام جديد، الامر الذي يفتح المجال للحديث عن دلالات الانتقال من عام الى اخر عبر جسر يزداد رحابة وتعقيدا وتحديات كل عام..
اما الاضافات الثورية في مجالات التكنولوجيا والعلوم فانها تثير الاندهاش حقا.. كيف؟
في عام 1940 لم يكن احد ليصدق ان مقياس الترانزستر سيصل الى 50 نانومتر، أي ما يقل بالفي مرة عن سُمك شعرة واحدة من راس الانسان. آنذاك، قبل سبعين سنة، بني أول حاسوب إلكتروني في العالم بلغ وزنه 27 طناً وضم في جوفه عشرات الآلاف من الصمامات وعدة كيلومترات من أسلاك النحاس وبلغت تكاليفه، عدة ملايين من الدولارات، وكان للمليون الواحد شأن.
ثم شهد العالم سلسلة من الثورات التكنولوجية في مجال الالكترونيات قبل التوصل الى ماسمي بالدوائر المتكاملة حيث استطاع العلماء تركيب مجموعة من العناصر الإلكترونية، شديدة التعقيد، على شريحة صغيرة من أنصاف النواقل، وشاء هذا التحول ان يدخل كل بضائع الحياة من معلومات في تلك الشريحة العجيبة، بل انه فتح الطريق لسباق “مجنون” نحو المزيد من الاختراعات، التي بدت للمتابعين انها تتحقق على مدار الساعة.
قبل عقدين من السنين لم يكن احد ليصدق بان تلك الشريحة المجهرية، الغاية في الصِغر والدقة، ستقود العالم الى اعادة تنظيم فانتازية بحيث ستدار العديد من الدول من قبل "حكومات الكترونية" تقيم في جهاز محمول، فالموظفون والمراجعون، في تلك الدول، لن ينتقلوا من منازلهم، وثمانون في المائة من شغيلة المعلومات سيزاولون مهنهم عبر الشبكة العنكبوتية، وان طلاب مدارس (تجربة جديدة في بعض الدول) سيأخذون دروسهم وهم على اسرتهم دونما الحاجة الى مدارس، فيما المدرسون يلقون محاضراتهم، هم ايضا، من مكاتب على بُعد أميال أو قارات، وصار المتتبع يرفع كتفه بعدم الاكتراث حين يطالع خبراعلميا مثيرا، ولم تعد اخبار الانترنيت وفتوحاته بمثابة زلازل إخبارية، فيما سقط الحاجز القديم بين الخيال العلمي والواقع العلمي.
بل ان حامل جائزة نوبل العالم المصري احمد زويل انبأنا بالامس ان العالم مقبل على طفرة علمية يحال معها الانترنيت على التقاعد، وان مقاييس التطور العلمي والتكنولوجي القديمة ستنكسر، وهذا يتطلب تهيئة عقولنا لاستقبال الاخبار غير التقليدية عن عالم ليس كسولا.
المشكلة، كما كان يقول العالم الفرنسي اندريه ماري امبير قبل مايزيد على قرن ونصف من الزمان ان ثمة بشر لا يعرفون هذه الانباء ذات الصلة بحياتهم، وقد طوّر برناردشو فكرة امبير بالقول بان "بعض البشر ليس فقط لا يعرفون، بل لا يريدون ان يعرفوا". وفي العام 1930 افتتح اينشتاين المعرض الدولي للالكترونيات في برلين، وقال حينها: لا ينبغي ان تبقى شعوب بعيدة عن فضائل هذه الاختراعات الجبارة.
لقد وصلنا الى نافلة الكلام وربّاطه، ففيما يقفز العالم خطوات فلكية في طريق التطور، وتنفتح على مصراعيها فرص الانتصار على الطبيعة وتطويعها من اجل الرخاء والامن، فاننا، في هذا الارخبيل الكسول لا نزال نتخبط في عالم عتيق، اسرى الكهوف والرطانات والاوهام، والكلام الفارغ.
الكارثة، ان اولئك الذين يجهلون ما يجري من تحولات اسطورية ولا يريدون التعرف عليها، كانوا موجودون دائما، وفي كل العصور، لكنهم، هنا، في مغرب الشمس، يملكون جزءا كبيرا من مصائرنا.