حتى نقترب من خصوصيات موضوع احتمالات (أو أخطار) تقسيم العراق علينا ان نحل مشكلة بحثية معقدة عن الحدود بين الدول (وحدود العراق منها) في عصر انهيار الحدود امام الدش والنت ووسائل التأثير التكنولوجية والاقمار عابرة الجغرافيا، ثم مشكلة اخرى عن فكرة التقسيم نفسها، وتوصيف مضامين الدولة العراقية الاتحادية، المقسمة اصلا، أو على وجه الدقة، غير الموحدة والمترسخة كفاية. لا نحتاج الى امعان البصيرة في اطلس العالم المراكشي الادريسي قبل الف عام لكي نعرف ان الحدود والدول (بل الامم) عرضة للانقراض والانحلال والتكيف تحت تأثير جملة من الحروب والاحداث والصراعات والعوامل الجيوسياسية، ومن الطبيعي ان نستبشع دور الاستعمار وحملات الاخضاع الدورية التي اتخذت طابعا دينيا في الظاهر فيما هي طمع في ثروات الدول الاخرى. الى ذلك فان النظرة الى مآل الدول والحدود ستكون حية وموثقة ومثيرة للانتباه اذا ما عززناها بامثلة من عالم اليوم، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واختفاء دول وتشكل حدود جديدة، في آسيا وافريقيا خاصة، ولا يبدو انها ستتوقف عند حد. باختصار، لا تصح مناقشة موضوع مستقبل الدولة العراقية، والتقسيم احد عناوينه، من خلال الجملة الانشائية العاطفية، أو من خارج احكام التاريخ وقواه المهيمنة، أو قفزاً من فوق الاسئلة الشائكة والملحة التي تطرحها مكونات هذه الدولة، القومية والطائفية والعقائدية، التي تبدو للباحث والمراقب، وحتى لمتابع الاخبار، انها متنافرة، ولكن ليس كل عنصرين متنافرين ينفصلان ميكانيكيا، كما يقول علم الفيزياء.
*******
من خلال هذه المقاربة، انا من المحللين الذين يستبعدون احتمال تقسيم العراق على المدى القريب المنظور، إلا في حال شاءت الدول المجاورة، او دولة منها، انهاء هذه الدولة بالقوة، ثم تقسيمها الى دويلات من لون واحد، وهذا في منظور كثير من المحللين، وانا منهم، مستبعد في الواقع، وتمنعه الجغرافيا والسياسة والنظام الامني الاقليمي على حد سواء، لكن للعقل الظني وجهة نظر اخرى، فهو يضع هذا الاحتمال في مدار التنفيذ باحالته الى فرضية المؤامرة.. وبين الاستحالة التي نراها والاحالة التي يراها العقل الظني لن يبقى غير الاحتكام الى الايام القادمة التي ستقول كلمتها الفصل فيما اذا كان تقسيم العراق سيجري وفق سيناريو ما، او انه سيستمر موحدا وفق صيغة ما. بمقابل ذلك لا يخرج الموضوع كله عن قاعدة الاحتمالات، فان تقسيم العراق الى سيادات (دويلات. امارات..) واحد من الاحتمالات التي يمكن ان يتمخض عنها الصراع القائم، ينحسر أو يتسع، بحسب آثار ومديات الانشقاق في النسيج الوطني، وكذلك بحسب “ارادات“ وموقف الدول صاحبة الثقل والتاثير في هذا النسيج، وبمعنى آخر، فان تقسيم العراق (ولا نعني الى فيدراليات) تفرضه جملة من المعطيات التي ينبغي (لمن يتصدى للموضوع) ان يمعن النظر فيها، وفي حقائقها، وبقدر تعلق الامر باصحاب عقيدة الاستحالة، فانهم يرصدون ان الدول المعنية، الاقليمية والدولية، يفزعها تقسيم العراق، مثلما يفزع الامر ربابنة القارب السياسي في العراق الذين يعرفون ان التقسيم يعني غرق القارب باحماله وبربابنته جميعا. أما العقل الظني فهو يضع هذا جانبا، ويعلن“ لا تتعبوا انفسكم.. العراق سيُقسم، لأنهم يريدونه كذلك” وينصرف هذا العقل الى توليف الحكم على اساس النيات المبيتة للقوى الخارجية، غير المعلنة، او جرى الإفصاح عن سيناريوهات نيئة او جاء ذكرها بين السطور وفي زلات اللسان، والنتيجة، ان التقسيم هذا (كما يقطع العقل الظني) مشروع سري ”جهنمي“يجد طريقه الى التنفيذ بتوقيتات محددة، ولا فائدة من ذمّ هذا القادم الكريه، مثلما لا فائدة من ذمّ الشيطان الرجيم.
*******
تحليليا، نحن بصدد اشكال النظر الى احتمال التقسيم، ومحاولات ترسيم تجلياته (من قبل العقل الظني)على اساس منظور المؤامرة المبيّتة للدول المجاورة، او القوى الكبرى، فيما يتأكد للمحلل (المتحرر من هذا المنظور) ان هذه الدول الموزعة في تعاطفها بين المكونات السكانية تنظر الآن بهلع الى خيار تقسيم العراق لأنها تعرف ان الدويلات المنبثقة عن الدولة الام ستكون عبئأ عليها، وقد تشكل منزلقا لها الى ساحة حرب لا حدود لنتائجها الكارثية، وأهوالها. هذا لا يعني تشجيعا منا على النظر الى تلك الاطراف كجهات مُحسنة، بل يعني حصرا القول بان هذه الدول (بحسب مصالحها الاستراتيجية) تريد عراقا مضمون الجانب، ضامنا لمصالحها ولنفوذها، موحدا، يكفيها شر الاضطرابات، ولا يصدر لها أزماته وفضلات احتقاناته الطائفية. اما الثروات التي يقال انها مطمع تلك الدول فان دولة عراقية موحدة اضمن لذلك المطمع من دويلات تخوض في حرائق تحول الثروات الى كومة من القش، ثم الى اعمدة دخان.
العقل الظني مغرم بالحديث عن التاريخ، بطريقة انتقائية، فيقول لك ان “تدمير “العراق وتفتيته الى دويلات حلقة من مسلسل بدأ من الاندلس على يد “الغرب المسيحي“حين تزوج فرديناند ملك أراغون من إيزابيلا ملكة قشتالة في القرن الخامس عشر واتحدت المملكتان لتدمير وحدة غرناطة العربية، لكن الرواة الظنيين لم يتحدثوا عن احزاب الطوائف “الاسلامية“التي فسدت حتى النخاع، وتقاتلت على السلطة حتى في غرف النوم، ثم باعت اوطانها برقائق ذهب اكتشفت انها مغشوشة، لكن بعد عبور البحر.. وفوات الاوان.