من زاوية تحليلية تطبيقية يمكن اعتبار انقلاب شباط العام 1963، بشعاراته وهوس القتل الذي رافقه، بمثابة انتصار مبكر لطلائع مشروع الارهاب في البيئة السياسية العراقية إذْ توّج مسيرته بالطور الداعشي عام 2014، فلا غرابة هنا (اليوم) ان يتحالف ورثة انقلاب شباط الصداميون مع قطعان داعش الارهابية، فان النزعة الدموية للفصيلين والمصاهرة الايديولوجية بينهما بائنة كفاية في اكثر من واقعة وممارسة ووثيقة واعلان.
لكن مناسبة سقوط ثورة 14 تموز تحت بساطيل انقلابيي شباط ينبغي ان توضع، وحدها، تحت بصيرة التحليل والمراجعة، فلا ينبغي هنا ان نتردد امام السؤال: ما الذي اضاع الجمهورية الاولى، ومن الذي قدمها لقمة سائغة للانقلابيين المهووسين بإباحة القتل وشعارات الثورة والجهاد؟
فالمراجعة النقدية لما حدث اكثر من ضرورية، الآن وفي المستقبل، اخذا بالاعتبار، مثلا، ان ضياع اول تجربة عالمية لدولة عمالية عام 1871 باسم "كومونة باريس" بقي موضوعا على طاولة التحليل والمراجعة والنقد اكثر من مائة عام حتى عقدت حلقة بحث في باريس العام 1971 لاعادة قراءة الحدث من زوايا منهجية نقدية، علما بان كارل ماركس سبق الجميع في تسجيل ملاحظات انتقادية على تلك التجربة، وبخاصة فيما تعلق بممارستها العنف والردع المنفلت.
******
اقول، ومن باب المعاينة الموضوعية بان الصراع على سلطة الجمهورية بين فرقاء الثورة.. الاستفراد بها والتآمر عليها.. هو الذي اضاع ثورة 14 تموز من بين اسباب اخرى، رئيسية وتفصيلية وجزئية. وبالنتيجة، أضاعت البلاد (في ذلك الصراع) فرصة بناء جمهورية دستورية مستقرة تتمتع ملايينها بالرخاء والحياة الامنة والحرية، وقومياتها وطوائفها وعقائدها بالاحترام والحرية، ويجد بيانها الاول ووعوده مدى للترجمة الى الواقع، حيث كان المستفردون والمتآمرون (وبعض اتباعهم ومريديهم الان هم في قلب المشهد السياسي) يبررون موقفهم، آنذاك، بشعارات المصلحة الوطنية من جهة والمصلحة القومية من جهة اخرى، وإذ تمادى فريق منهم في التآمر والتجييش والغدر، فقد وجدت الجمهورية الاولى نفسها في بركة دم ومسلخ بشري، وصراعات مديدة ومدمرة متناسلة لم تتوقف عند حد حتى اليوم..
وصحيحٌ القول، في علم الاجتماع والسياسة، بان الصراع على السلطة، صراع اجتماعي في جوهره، بما يمثل من ارادات وتصورات لمستقبل البلد، وما يستقطبه من شرائح اجتماعية تتوزع على هذا القطب او ذاك، وعلى هذا الخيار او سواه، لكن المتصارعين على حكم الجمهورية كانوا سيجنبون العراق هذا الضياع وتلك الفظائع لو انهم احتكموا الى الاسلوب الديمقراطي، والى فسح المجال امام الملايين لتتدرب على الديمقراطية واختيار النظام السياسي المناسب عبر الانتخابات.
وصحيحٌ القول، ايضا، بان الشريحة العسكرية التي قادت الجمهورية الاولى، كانت تحت تأثير زخم الحركات الوطنية التحررية العالمية من الاستعمار والتبعية في مطلع واواسط القرن العشرين، وانها (وربما غالبيتها) لم تكن مشبعة بافكار الديمقراطية واحترام الحريات وتداول السلطة سلميا وحسن ادارة بلد متعدد الاطياف والعقائد، وانها وُضعت منذ الايام الاولى للثورة تحت ضغط التآمر والتدخل الخارجي المتعدد والمعقد الاشكال، لكن المحصلة النهائية لتجربة الثورة، كشفت عن خلل قاتل لدى الطبقة العسكرية الانقلابية يتمثل في نمو نزعة الديكتاتورية الفردية، ثم الفئوية، بمديات واسعة وخطيرة، من جانب، وانحسار الفعالية الشعبية، والتباس وعي النخب لضرورات كبح الاندفاع في الصراع على السلطة ولضمان تحقيق خيار الديمقراطية والحيلولة دون اغتيال الثورة، من جانب آخر..
وصحيحٌ القول، اخيرا، بان ثورة 14 تموز، حدثت في ظل (بل وفي ذروة) الحرب الباردة بين الشرق والغرب.. بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. وانها راحت ضحية هذا الصراع واحكامه وامتداداته وتعقيداته في الاقليم العربي، غير ان ضيق صدر وافق المتصارعين على سلطة المستقبل وانانية وخطايا و"جرائم" ابطال الصراع عمّق هو الاخر من بصمات الحرب الباردة، بل وجعل العراق ساحة لتصفيات الحساب بين القوى الدولية والاقليمية النافذة.
******
وهكذا، ومرة اخرى، ضاعت الفرصة على مشروع الدولة الوطنية
العراقية لكي يعبر الى ضفاف السلامة باقل الخسائر، وانتصرت في الثامن من شباط 1963 طلائع داعش.