عندما زرت صديقا اديبا قديما لأبارك له منزله الجديد فوجئت انه لا يملك مكتبة منزلية، وتساءلت عن مصير مكتبته العامرة، وكتبه الثلاثة التي أصدرها.
سكت، ثم علمت ما علمت:
***
كان صديقي "ك" على موعد سعيد مع دار النشر التي تولت طباعة وتسويق كتابه الجديد الذي اضناه تأليفه، وسهر معه الليالي، وراهن على ان يتلقفه القراء من المكتب، او قل راهن على قراء من ابناء الثقافة والعلم، وفي ذلك اليوم نفسه اصطدم باول احباط حين ابلغه صاحب مكتبة كبيرة انه لا ينبغي ان ينتظر مبيعا كثيرا لكتابه "في الكثير عشر نسخ" وفي اول جمعة حمل عشرين نسخة من الكتاب في حقيبة هدت كتفيه ليوزعها بين معارفه في شارع المتنبي، وفي نهاية النهار وجد اكثر من نصف تلك الكتب مطروحة على “قنفات“المقاهي وزوايا الممرات. وبعد عام ابلغته دار النشر ان نسختين من كتبه بيعتا فقط ويمكنه ان يستعيد بقية النسخ وبعد عام آخر اضطر ان يوافق زوجته على ان تحرق الكتب المكدسة في المنزل، فانهم سيتحولون الى منزل جديد لا يتسع لكراتين الكتب التي علاها الغبار.
كان ذلك الكتاب قد انضم الى اطنان واطنان من الكتب التي التهمتها النيران عبر التاريخ، وكان صديقي "ك" قد انضم الى طائفة الادباء الذين احرقوا كتبهم بايديهم.
***
لقد اضطر ابو حيان التوحيدي الى احراق كتبه، في ايام قال عنها "انها نحسة" وجاء في كتابه "المقابسات" شكوى الحال من تاليف الكتب بقوله: "الى متى الكسيرة اليابسة والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد، والله بُح الحلق وتغيُر الخلق" ثم اورد انه احرق كتبه بيده قائلا "ما ظننت بان الدنيا ونكدها تبلغ من انسان ما تبلغ مني".
كما اقدم معلم الفراهيدي "ابو العلاء" الاديب البصري الشهير على طمر كتبه في باطن الارض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعا، في ساعة يأس "بلا جدوى العلم في زحزحة الجهل" فيما القى داود الطائي الملقب بتاج الامة بكتبه الى امواج البحر مخاطبا اياها: "لا فائدة ترتجى.. فقد اعشى بصر القلب بصر العين". لكن الاديب المراكشي يوسف بن اسباط حمل كتبه الزاخرة بالمواجيز العلمية والاكتشافات والفلسفة الى حفرة في جبل عصي على الوصول، وقد اتلفها هناك وهو يردد القول:
"دلنا العلم في الاول، ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه".
اما "سفيان الثوري" الذي هجا الاستبداد الاموي وحاصره المستبدون فقد اكتفى بتقطيع اوصال ما يزيد على الف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحا عاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: "ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم اكتب حرفا". على ان فهرس ابن النديم يشير الى ضياع مؤلفات وفيرة بين الحرق والطمر وموجات الاستبداد التي ضربت الدولتين الاموية والعباسية "وقد تفضل بالتذكير عما فُقد من الكثير" وتحدث بهذا الصدد عن مذابح تعرضت لها مكتبات تضم امهات الكتب، كما حدث لمكتبة "آل عمار" في طرابلس الشام التي احرقت على يد الصليبيين وفقد منها ما يزيد على نصف المليون من امهات الكتب والمصادر.
قلت لصديقي" ك" بعد ان نقل لي خبر القاء كتبه الى السنة النار في فوهة التنور، يجب علينا ان نتأمل جيدا ظاهرة عزوف الناس عن اقتناء الكتب، وعن القراءة، فان العيب ليس في ما تحمله الكتب من معارف بل في بيئة تاريخية جديدة القت بالكتاب الى خارج الاهتمامات، ورويت له الواقعة التالية:
في القاهرة دخلت احدى اكبر المكتبات وتجولت بين رفوفها طويلا، فوجدت الغبار يعلو تلك الرفوف، وقدرت ان احدا لم يتصفح غلاف كتبها منذ اكثر من عدة شهور.. وقلت لمدير المكتبة: هل يصح ان هذه الكتب لم يصلها احد منذ شهر.
ضحك الرجل قائلا: يا راجل.. قل من سنوات.