}ولا تصدّق بما البرهان يبطله.. فتستفيد من التصديق تكذيبا} *المعري
اذا كان ما يجري من اندفاع نحو دورة جديدة للانشقاق السياسي في البلاد وعلى خلفية تظاهرات الصدريين وتداعياتها، مؤامرة على مستقبل عملية التغيير (هكذا بدأنا نسمع ونقرأ مؤخرا) فمن هو المتآمر؟ ومن هو ضحية هذا التآمر؟ هذان سؤالان منهجيان تطرحهما البديهيات التحليلية.. وعنهما تنبثق اسئلة تفصيلية، مثل: هل الخارج يتآمر علينا، ام نحن نتآمر على انفسنا، ام هم ونحن، معا، نتآمر على هذه البلاد ومستقبلها؟ هنا نتوزع بين طيف واسع من الاجتهادات والملاسنات والاتهامات وزوايا النظر، وفي الاخير قد نكتشف انه لا نفع من اثارة الاسئلة مثل لا نفع لتجنيد متطوعين وقد انتهت الحرب، لأن المطلوب وضع وقائيات ضامنة في حشوة المشروع الاصلاحي الذي اطلقه حيدر العبادي في اب من العام الماضي للحرب على الفساد، ونقـّحَ نسخته مقتدى الصدر عاموديا بالدعوة الى اقتحام المنطقة الخضراء "لاجتثاث الفساد".
لندع اثارة الاسئلة، التي من العبث الاستعجال بالاجابة عنها، ولنضع الحقائق (أو المقاربات) التالية على الطاولة، من دون ان نوحدها بنسق ما:
- الاصلاح لا مفر منه إذا ما اردنا محاربة الفساد والفاسدين، وتفكيك دولة المحاصصة سيئة الصيت، ودرء اخطار الانهيار الاقتصادي والمالي.
- لا إصلاح من دون ادوات اصلاحية تتمثل بكبار الموظفين الموكلة اليهم مهمة تحقيق المشروع وضمان ترجمته الى الواقع.
- الزخم الشعبي لا بد منه لشل مقاومة جيوب الفساد وتصفية "الدول الفاسدة" التي تنتشر في اوصال الدولة الرسمية.
- لا يضعف التوجه الى الاصلاح الحقيقي من التعبئة الوطنية لدحر الارهاب، بل يساعد على تزييت وتأهيل الدولة لتحارب هذا السرطان على نحو افضل.
- بيانات مقتدى الصدر شددت على الطابع السلمي للفعالية الاحتجاجية وعلى وظيفتها الاساسية كحملة ضد الفساد والفاسدين، وترشيد اولويات الحكومة لكبح النهب والغنى الفاحش المسجل باسم مراكز النفوذ في العملية السياسية.
- كل تمدد الى خارج هذه الوظيفة في الشعارات او اشكال التعبير سيؤدي الى اسقاط المصداقية لمشروع التظاهرات، وكل تعدٍ، او افراط في ايذاء المتظاهرين وردعهم سيعني سقوطاً لمصداقية الدعوة للاصلاح.
من هذه الزاوية، ونحن نقترب غدا، الجمعة، من اختبار النيات، وجدية الالتزامات المعلنة، يلزم ان نضع احتمالات المؤامرة التي تروج لها بعض الاقنية خارج المشغولية، وللاستدراك اقول، ان رفْض نظرية المؤامرة، في الاقل بالنسبة لي، لا يعني الاعتقاد بعدم وجود مؤامرات وراء الكثير من الانهيارات والصراعات، فالمؤامرة وسيلة قديمة لكسر شوكة الخصوم منذ تكون المجتمعات، وهي تتجلى في عمق الموروثات والأخيلة والروايات التاريخية والدينية: قابيل تآمر لقتل اخيه هابيل.
يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير صرخ وهو يحتضر: حتى انت يابروتس، شكوى يرددها من تآمرَ عليه الاقربون.
اما نظرية المؤامرة فهو اصطلاح حديث في علوم السياسة، وقد دخل في الاستخدام منذ العقد الثالث من القرن الماضي على هامش الانشقاق في النظام الدولي بتأسيس الاتحاد السوفيتي، وانتشار اعمال الاغتيال السياسي وتراجع الفكر الموضوعي والتحليلي المستقل، فيما اصبح هذا المصطلح منهجا لتفسير الاحداث مع صعود الحرب الباردة، وشمله "قاموس اوكسفورد" بالبحث فصاغه بالكثير من الحذر بوصفه "محاولة لشرح السبب النهائي لحدث او سلسلة من الاحداث السياسية والاجتماعية او التاريخية على انها اسرار" لكن الذين اختلطت عليهم الامور وصعُب عليهم البحث الصبور الواعي والموضوعي في خلفيات الاحداث وجدوا في هذه النظرية مهربا من معاينة المسؤوليات عما يحدث، او تبريرا للاخفاقات والفشل والنكسات ورفع اللوم عن النفس وإبراء الذمة عنها وإلقاء الخطايا على متآمرين، وفي النتيجة تحولت "نظرية المؤامرة" من رؤيا سياسية لتفسير الاحداث الى عقار يبرر التعايش مع العجز.. وبعض العاجزين يبدعون في تحويل حياتنا الى ضجيج من دون طائل.