كان طموحنا ان تتضافر جهود جميع السياسيين والكتل والنواب في العمل.. غير ان ذلك لم يتحقق على نحو حازم وواضح.
حيدر العبادي.. هل الزعامات السياسية التي تدير معادلة الحكم والسياسة والمستقبل ستنقذ عملية التغيير والعملية السياسية وتمضي بالبلاد الى برّ الامان؟
سؤال يبدو ساذجا لكنه في جوهره محوريا، وذو صلة عضوية بمستقبل هذه البلاد، يطرحه الكثيرون علينا، ونطرحه على انفسنا.
البعض منا يذهب الى ان الوقت مبكر لمعاينة اهلية هذه الزعامات لدور خطير مثل كفالة انقاذ البلاد، وسيكون وارداً بعد ان تستتب الامور ويندحر الارهاب وتبدأ مرحلة اعادة البناء، والبعض الآخر يعتقد بان اصحاب القارب الذي يحمل مصائر البلاد استنفذوا شحنتهم ومعداتهم، وقدموا ما بوسعهم، ولم تعد لديهم كفاءة الاضطلاع بادارة المرحلة اللاحقة بعد ان اخفقوا في النهوض الجماعي بواجب ادارة معارك الدفاع عن الامن والسيادة، وبين اولئك وهؤلاء الكثير من القراءات والاراء، غير انه حتى ذلك اليوم الذي تعكف فيه العقول الحية على التقصي المسؤول عن “قدرة “هذه الزعامات على تحمل المسؤولية بعيدا عن الانانيات، فان بين ايدينا:
1.(أولا) اشارات لوم مهمة اطلقتها المرجعية الدينية في النجف حيال ما اسمته باحزاب السلطة او قيادات القوى السياسية.
2.اشارات وفيرة عن تعنت هذه الطبقة وعدم استعدادها للتنازل، او التنازل المتقابل، او التخلي عن المحاصصات الفئوية الضيقة كفاتحة لعبور الازمات السياسية.
3.ثمة الكثير من طعون الفساد مسجل في مسؤولية بعض هذه القوى وتشمل الكثير من البطانات والاتباع والوكالات التابعة لها.
* * * *
صناعة الاوهام حرفة دخلت في سوق السياسة والاعلام وقد رعتها مشيئات سياسية تحت شعار: كل شيء على ما يرام، والحق، ان الامر ليس كذلك، فثمة اخطار وتهديدات واعمال تآمر وتحديات خارجية وداخلية (سد الموصل مثلا) وان تهوين الامر بالنسبة للجمهور وتركه يعيش في اوهام انْ لاشيء يستوجب القلق، وهو تعطيل متعمد لدور الشعب في التصدي للاخطار، والمطلوب، بدلا عن ذلك تبصير الملايين بالحقائق، وما يبيته الاعداء، وما ينقصنا من لوازم المواجهة، وما لحقنا من فشل وخسائر، اخذا بالاعتبار بان وسائل نقل الاحداث والحقائق لم تعد محتكرة كما كانت في النظام الشمولي، فهناك من يتولى صناعة اوهام مضادة، تثير هلع الجمهور وتحبط اماله وتشل مقاومته.
على انه ليس بالضرورة ان يكون صانعو الاوهام موهومين، فثمة الكثير ممن يعمل في هذه الصناعة موظفون في مؤسسات اعتبارية، سياسية ودينية وطائفية، مهمتهم حشر الملايين في غيبوبة الهروب من الحال، او الرضا عن الحال، وهم، بالضرورة، يمتلكون مواهب الصنعة، وتقنيات الاقناع، واساليب الوصول الى جموع الضحايا، فضلا عن “ثقافة “تناسب هذه الوظيفة، وتؤهل صاحبها لفرصة عمل غير منتجة.
فالصناعة هي صناعة، كما يقول تشارلس كامان صانع طائرات الهليوكوبتر الشهير، اما الاوهام فهي تتحول اذا ما انتشرت الى مرض لم يكتشف العلم علاجا له حتى الآن، سوى وجوب الاقامة بمصحات بالنسبة للذين يعانون من اعياء التفكير في ما لاطائل منه، ومنذ القدم لاحظ العالم اليوناني هيبوقراط أن الإعياء الذي لايعرف له سبب ينذر بمرض، وان الذي يوخزه شيء من بدنه ولايحس بوجعه في أكثر حالاته فعقله مختلط ، والإحساس بوجود مرض دون التوجع منه يشير إلي علة في القوى الإدراكية.
في الغالب لا تصبح الاوهام صناعة رائجة إلا حين يكون وراء ذلك مصلحة، او مشروع سياسي، او ترتيب في امور البلاد والامم من الخارج، فان تعصيب العيون وتبليد العقول وتعطيل مفاعيل الارتقاء والنشاط الجمعي للتغيير لا تتم من غير فاعل او منظومة من العقائد تتاجر بغفلة الملايين التي تقبل ان تتمتع برزاياها وكوارثها عن طيب خاطر.
* * * *
لا يمكن لدولة ان تُدار من دون عقيدة حكم واضحة ومعلنة، لها قدرة الانفتاح على فروض ولوازم الادارة وسلطة القرار والاجابة على الاسئلة التي تطرحها التحديات والاحداث واستيعاب موجبات تحقيق التنمية والاستقرار وكبح الاخطار ودورات العنف، ولا يمكن لهذه العقيدة ان تكون فاعلة وضامنة من دون ان تتسع لمفهوم الجماعة والوطنية بكفالة القواسم المشتركة لمجموعة المصالح التي تخص المكونات والشرائح السكانية عبورا من فوق النصوص الدستورية، والادق، استلهاما لروح الدستور لا نصوصه. لكن، ينبغي ان نستدرك القول للتمييز بين مفهومين: عقيدة ادارة الدول والانظمة السياسية وعقيدة ادارة العبادات والايديولوجيات، ولا يعني التمييز هذا الفصل بينهما، فهو شأن يتصل بمستوى الوعي واحكامه وتجلياته في السياسة، لكن المطلوب ان يكون للمرحلة التي يمر بها بناء الدولة وادارتها وبرامجها عقيدة تنظم فعل الارادات المختلفة في سياسة واحدة تستند الى تلك الارادات، من جهة، وتكون ملزمة للارادات وموضع احترام الجميع من جهة اخرى.
التجاذبات التي عصفت في صفوف الطبقة السياسية كشفت عن غيابِ موصوف “العقيدة الوطنية“وظهر على السطح وفي الممارسات والتحالفات والاصطفافات ان ثمة عقائد بينيّة كثيرة، متضاربة، ومتقابلة، وجامدة، ومتخندقة، لا يجمعها إلا الخوف من ان ينقلب القارب على من فيه، ولم تفعل هذه الاعتبارات فعلها لخلق عقيدة حكم متجانسة (وقل متقاربة) في الرؤى والتطبيق، ومتضامنة عند الحد الادنى من المتطلبات، بل انها حالت دون صياغة عقيدة المرحلة التي يمكن ان تعجل في عبور البلاد الى بر الامان.
على ان عقيدة الحكم ليست وصفة يمكن نسخها عن تجربة لدولة اخرى، لكنها، بالمقابل، ليست اجتهادات يقترحها (أو يطبقها) زعيم سياسي او مجموعة من شريحة سياسية محددة، ولا هي ملف سري في مكتب من مكاتب ادارة الدولة، بل هي تحديدات في الامن والحرب والسلام والعلاقات والاقتصاد والمواقف معبر عنها في الثقافة والاعلام والفعاليات الاجتماعية، وتتضمن خطوطا حمراء رادعة (مثل تحريم استخدام العنف وتأجيج الكراهيات الدينية والقومية) مثلما تتضمن ترخيصات لا تقبل الارتهان والتعدي (مثل الحريات والمقامات) انها هنا تكتسب صفة عقيدة الحكم الرشيد في نهاية المطاف.