كل الحروب والحرائق تبدأ بالكلام.. فلو لم تطلق "العمة" البسوس كلماتها المثيرة للنخوة القبلية والثأر ما اشتبك كليب وجساس، وما اندلعت حرب "داحس والغبراء" اربعين سنة بين ابناء العم المتجاورين، بكر وتغلب، بسبب ناقة قـُتلت عرَضا "من دون تخيط مسبق".
/فالكلام يلعب دور عود الثقاب الذي قال فيه مترنيخ، رجل المؤامرات النمساوي العتيق، انه يسهل التغلب على كل قادة الجيوش الأ اولئك الذين يحولون الكلام الى حريق، وقبله من أعماق التاريخ قال النبي محمد "أياكم والتشادق" وقوله: "أبغـَضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون".
/وفي كتابه "البيان والتبيين" دعا الجاحظ، أبوعثمان عمرو بن بحر الكناني رب السماوات الى درء "فتنة القول" واضاف.. “ونعوذ بك من التكلـّف” ثم..”ونعوذ بك من السلاطة والهذر" ويقف الجاحظ إعجابا، بهذا الصدد، عند حكمة الإمام علي في قوله: "وقيمة كل انسان ما يُحسِن" والاشارة هنا الى حُسن الكلام،والمهم ان الجاحظ يؤكد في نهاية الامر بان لكل زمان "شكل من المحنة" ويبدو ان محنتنا الان (والقول هذه المرة لنا) تتمثل في فتنة القول العابر لحدود الانصاف والمسؤولية، وما يسعى اليه دعاة واعلاميون وشيوخ لترويج ثقافة الثأر والطائفية باجمل العبارات، سهلة الابتلاع، واكثر النصائح المدفونة في حشوات الفتنة .
/والمشكلة ان بعض الدعاة ادمنوا وظيفة التجييش واثارة المشاعر وصارت لديهم ثروة من كلام الفتنة، وبعضهم اصيبوا بالهذيان المكروه، المذموم، وبخاصة في حالات التأزم والتوتر والانشقاقات وانعدام الثقة بين اصحاب الحل والربط والمشيئة والقرار، فهم، إذ يكرروا الرطانات والمطولات والديباجات في غير ذي فائدة يزيدون من اخطار الاحتقان ويقربون الحال من الانفجار، ويجعلون من بعض التوليفات اللغوية الشريرة بابا الى الفتنة بالنظر الى لجوء "الهاذي" الى وسائل الاثارة واللجاجة والايحاءات والاسهال في الكلام غير المنضبط واللامعقول، والمنبري بمناسبة وبدون مناسبة،
/في التحليل، نجد ان كلام الفتنة اصبح مراوغا، يبتعد عن ضبط الاشارة الى المقصود، ولا يتواني من ان يعيد اليوم ما قاله امس بإفاضة، كما لا يتواني عن تكذيب ما قاله بالامس متواكلا على عطل ذاكرة مستمعيه.. وفي اغلب الاحيان يحل اصحاب هذا الكلام ضيوفا على الشاشات الملونة في آخر الليل، محل فيلم السهرة، وعندما تكون الفتنة بحاجة الى عود ثقاب، فقط، ليشبّ الحريق.
************
قيل لالبيرت سبير، صديق هتلر الحميم:
كيف تصف لنا حياة الفوهرر؟
قال في صباه كان يقضي ساعات طويلة امام المرآة ليمارس تمارين خطابية.