تزدحم اقنية المعلومات والاخبار بالرويات المثيرة للغضب عن ابناء واحفاد مسؤولين تلاعبوا بالمال العام، وشاء البعض ان يعلق على الأمر بالقول لو ان ثلاثة ارباع ما ينشر مبالغ فيه، او غير صحيح فأن المتبقي سيكون كافيا لتجريم اولئك المسؤولين.
حكاية يزيد بن معاوية تقترح علينا الامعان في ما يكرره التاريخ بأن الفاسدين والجبابرة الطغاة ينجبون ابناء من جنسهم.. “لا ينامون إلا على الرضا، ويضحكون عند الغضب “كما يصفهم الطبري، او انهم (الابناء) يعلنون من على المنابر حين يصعدون الى سلطة آبائهم: “والله لا يأمرني احد بتقوى الله، إلا ضربت عنقه“ وذلك في نص نقله ابن الاثير عن عبدالملك بن مروان وهو يخطب في المدينة بعد ايام من ارتقائه الحُكم، بل ان القلقشندي في “صبح الاعشى“ لاحظ ان ابن الطاغية“ لا ينحطّ في ملابسه، ويرتفع عما يلبسه السوقة“ في اشارة الى التعالي على الناس، وكأنه يستبق روايات يتناقلها الناس الآن عن مسؤولين أئتمنتهم الدولة على ثروات واموال الشعب، فنهبوها ودربوا الابناء والاحفاد على فنون النهب.
ليس هذا فحسب، انهم يتعلمون، منذ نعومة اظفارهم، الكلام المعسول، الملقّن، الذي يثير الملل والغثيان لفرط تكراره، وينقل ابن عساكر حديثا للنبي يحذر فيه من ابناء النعمة الذين ورثوا السلطة والهراوة عن ابائهم، بقوله:
”شرار أمتي الذين غُذوا بالنعيم، ويتشدقون بالكلام “وطبقا لأحمد ابن حنبل في “المسند “فقد دخل احد اولئك على رسول الله فالقى اليه الرسول الكريم ”وسادة من أدم “وهو جلد رخيص، حشوها من ليف مما يستعمله الفقراء، فلم يقعد عليها الزائر، وبقيت بينهما. المشكلة ان التاريخ، زاخر بانباء الطغاة الصغار الذين يولدون وفي ايديهم ملاعق من ذهب، وتشاء اقدار الامم ان يرث هؤلاء سلطة آبائهم.. كيف؟
انها قصة قصيرة جدا، كتبت نفسها في نفق من الثعابين، وصار بطلها، فجأة، على كل لسان:
وُلد وفي فمه ملعقة ذهب في قصر مهيب من قصور الرئاسة.
حمله طابور من الخادمات الى مهد من قصب الجواهر.
وقبل ان يشب عن الطوق تعلم، اول ما تعلم، رماية الرصاص، وركوب الخيل، وبناء قصور من مكعبات البلور، ثم جرى تلقينه نشيداً قوميًا حماسياً عن العدو، وذلك قبل ان يعرف انه متحدر من صلب رئاسة، عليه ان يحافظ عليها، ويشدّ عليها بنواجذه.
كان الشعب بالنسبة لذلك الطفل المدلل عبارة عن صفوف منظمة انيقة تجيد التصفيق والمديح، واسترخاص الدم من اجل رجل واحد، والده، والتضرع الى الله ان يحفظه لهم ابدا، ولم يكن ليسمع شيئا عن ملايين العائلات التي تنام على خواء بطونها، او منسية في علب الخوف والاقصاء، وهي لا تصفق للرئيس لانها لا تجد سببا لذلك، ولا تستطيع الوصول الى حيث يطلّ من شرفة او من على شاشة ملونة.لم يسع (أو يجهد نفسه) وريث الطاغية للوصول الى الحكم، فهو في متناول اليد، لكن الدرس الاول الذي تلقاه، وأقلقه كفاية، يفيد ان هناك من يسعى الى الحكم، ويزاحمه عليه، وقد يطيح بحكم الوالد اذا ارخى الحبل وجرى التهاون في ردع من تسوّل له نفسه التمرد على مشيئة القصر وصاحبه.
***
من كتاب “الامامة والسياسة“:
لقي المنصور فقيهاً في الطواف، والفقيه لا يعرفه، فأمسكه من يديه، وقال: أتعرفني؟
قال: لا أعرفك..ولكن قبضتك قبضة جبار.