الزاوية التي ننظر منها الى احداث الساعة في العراق شديدة الحساسية والحراجة، ولكنها اكثر وضوحا من اي وقت مضى في مختصرها المتمثل بالاصلاح لاجتثاث الفساد والفاسدين، إذ سبقت المرجعية الدينية "احزاب السلطة" في استشعار الخطر الناجم عن حشوة الفساد في ماكنة الدولة التي ائتــُمنت تلك الاحزاب عليها، وبدا انها بين متورطة في الفساد او متسترة عليه، والقليل مِن قياداتها مَن نأى بنفسه عن ظنة الفساد، وهو الامر الذي برز في حث المرجعية لرئيس السلطة التنفيذية حيدر العبادي ان يكون "اكثر جرأة وشجاعة في خطواته الاصلاحية" وأن "لايكتفي بالقرارات والاجراءات الثانوية" وعليه ان "يتجاوز المحاصصة الطائفية والحزبية"..
فاين الوضوح في ترسيم الموقف والتذكير بالمسؤوليات والتحذير من اللف والدوران أكثر من هذا.
وباختصار شديد كانت المرجعية قد أشرّت (ومعها الكثير من اصحاب الراي والمشتغلين بالشأن العام) ان البلاد "سائرة الى ما لا يحمد عقباه" اذا استمر الحال على حاله، والمطلوب بناء اصلاح الدولة على اسس النزاهة والعدالة، في وقت ازداد نفوذ القوى التي ارتبطت مصالحها بحالة اللاحساب والفلتان من المساءلة، حيث اقامت دولا مخيفة داخل دولة افتراضية لم تعد تخيف، وسمت المرجعية الاشياء بمسمياتها بدعوة العبادي "ان لايتردد في ازاحة من لا يكون في المكان المناسب وإن كان مدعوما من القوى السياسية، وان لا يخشى اعتراضهم".
في السايكولوجيا السياسية نهتدي الى الحقيقة التالية: لو لم تكن ضرورات الاصلاح لأنقاذ البلاد قد اختمرت في راس حيدر العبادي منذ زمن بعيد لما التقط نصائح المرجعية بهذه السرعة، ليطلق السِلال الاصلاحية، وفي مقدمتها "إبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة ووكلاء وزارات ومستشارين ومدراء عامين عن المحاصصة الحزبية والطائفية" فقد اعاد "التوافق السياسي" الضامن للادارة الجمعية لسلطة القرار الى مكانه الطبيعي بوصفه شراكة سياسية لا عملية تقاسم الوظائف والامتيازات بالطريقة التي أسست للفساد وعرقلت اعادة بناء الدولة واستفزت كرامة الشعب، وصارت، في النهاية، مطعنا للعهد المتوارث عن حكم الدكتاتورية البغيض.
ولا يصحّ هنا التقليل من اثر القرار القاضي بـ"فتح ملفات الفساد السابقة والحالية تحت اشراف لجنة عليا لمكافحة الفساد تتشكل من المختصين وتعمل بميدأ: من اين لك هذا".
فالمتابع من داخل لوحة التجاذبات داخل الجماعة السياسية يعرف ان هذا القرار، وليس الترشيق الوزاري او الغاء مناصب نواب الرئاسات، هو الذي اقلق قوى الفساد النافذة ولدغها من موضع الفضيحة ووضعها في موقف الحرج والترقب والمعارضة الخفية، لكن الشرسة، وسيكون مفهوما للمحلل دلالة شكوى رئيس الوزراء المتكررة من العصي التي يضعها الفاسدون المتنفذون في عجلات الاصلاح، كما لا نحتاج الى ورشة جدل حول شرعية قرارات الاصلاح وقد اجازها مجلسا الوزراء النواب، ورخص له الدستور في مادته 78 بوصفه "المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة..
وله الحق باقالة الوزراء بموافقة مجلس النواب" فضلا عن تفويض الشارع العراقي معبّرا عنه بالتظاهرات السلمية التي عمت البلاد، وشكلت ظهيرا لقرارات الاصلاح ومصداً امام محاولات اجهاض زخمها المتواصل.
وقد يبدو للبعض، من سليمي النيات، ان فتح معركة الاصلاح والفساد سابق لأوانه، في وقت ينبغي، حسبهم، التعبئة لمعركة الارهاب والانصراف لها، فالارهاب عندهم اخطر من الفساد على مستقبل الدولة العراقية، غير ان المعطيات والارقام والوقائع الحية، وليس الفرضيات، لا تسمح للفصل بين الفساد والارهاب وقد اكدت وتؤكد وجود مصاهرات وتلازم و"اتفاق خدمة" بينهما عبر اقنية عديدة، وبين ايدينا ملف محتشد بالمعلومات والاسماء وخطوط اتصال بين خلايا داعش الارهابية واوكار ووكالات فساد، سياسية واخرى عابرة للسياسة، وقد حققت الرشى التي قدمتها وكالات داعش لمسؤولين مدنيين وعسكريين "مكاسب" كبيرة للمشروع الارهابي الاجرامي، هذا عدا عما يعرفه حتى السذج من الناس بانه لولا وجود فساد في ماكنة الدولة الامنية لما تمكنت عصابات منبوذة ومنقطعة من اغتصاب حواضر عراقية وفرض سلطتها الدموية على رقاب سكانها الآمنين وعلى الثلث من اراضي العراق.
اننا نتحدث عن الاصلاح من هذه الزاوية، لكن علينا ان نَحذَر من تبسيط الامر أو التوهم ان المعركة حُسمت لصالح قرارات التاسع من آب، فالمعبر الاول للنجاح لا يزال ضيقا، ومسكونا بالتحديات، وسيكون رحبا وآمناً اذا ما تأكدت الملايين الفقيرة والمهمشة والعاطلة عن العمل والمحرومة من الخدمات والسكن اللائق انها تجني ثمار خطوات الاصلاح باللمس..
واللمس غير الملموس كما تقول كتب الفلسفة.