لا ينبغي ان نتردد في القول ان بلادنا تمر في أزمة، هذه حقيقة نتبين تجلياتها على مدار اليوم ونتلمسها في اعتلالات النظام السياسي (الفساد مثلا) او في اداء وخطايا اللاعبين على مسرح الاحداث، او في تشتت وتنابذ واحتراب الارادات بالنسبة للمكونات وواجهاتها السياسية وفي داخلها وبين اجنحتها، او في اضطراب ومهاوي تطبيقات المناهج والنصوص والقوانين التي اريد لها ان تقوم بضبط تشييد العراق الجديد، او في اضطراب سياقات ونسق العلاقات مع الجوار، والقوى الدولية، بين الولاء الاعمى والعداء السافر، او في تعريف الازمة الشائع: الشدة والضيق، وهي حالة معاشة وليست فرضية.
ولا يصح ان نعتبر الازمة هذه من مشتقات عهد الاحتلال وما بعد اطاحة حكم الدكتاتورية، فان لعناصر الازمة، اذا ما شئنا البحث الاكاديمي المجرد، بصمات بائنة على يوميات مسيرة الدولة العراقية في مائة عام، وهي تنفجر وتتراجع بحسب قوانين بناء الدول الخارجة من التبعية الاستعمارية الطويلة، وقد تفاقمت بمديات مخيفة في السنوات العشر الماضيات، بحيث بدت، في اكثر من مرة، بانها تندفع بالعراق (الموحد) الى الاستقالة من الخارطة، وبأن القارب يغرق بربابنته.
هذا لا ينطوي على مبالغة او على تبشيع ما تحقق، ولا على التقليل من شأن التدبيرات والمبادرات والمحاولات التي استهدفت احتواء الازمة وما تفرع عنها من مشكلات، لكن علينا ان نتصارح بان الامر الذي يعيق إطفاء الازمة وعبورها الى بر الامان يتلخص في مستويين (الاول) ان بعض مصادر الازمة وافد من وراء الحدود (التدخل) اذ تحولت البلاد الى مكبٍ لازمات الدول وصراعاتها ونفوذها وسياساتها التوسعية، ولم يكن لهذا "التدخل" ان يصل الى مدياته الخطيرة من دون تبنيه من هذا الطرف او ذاك من اللاعبين في الساحة السياسية و(الآخر) يتمثل في ان قوى وزعامات نافذة وجدت مصالحها وحماية نفوذها في استمرار الازمة وفي التخندق وعرقلة الحلول والعلاجات التي لا يمكن تحقيقها من غير لتنازلات وتنازلات متقابلة.
***********
ثمة للازمة هذه ازمات موازية تنبثق عنها، وتغذي نيرانها في ذات الوقت، حتى لم يعد ممكنا الفصل او وضع المحددات المدرسية بين الازمة الرئيسية ذات العلاقة ببناء الدولة وتشكيل هويتها التاريخية، والازمات المنبثقة عنها، وهذه خصوصية تزيد في تعقيد المهمة التي قد يفكر أحد (أو جهة) بترسم خارطة مناسبة لاحتواء الازمة، وقبل ذلك تزيد في صعوبة استيعاب حقائق الازمة.
الى ذلك يمكن تأشير مكامن خطيرة للالغام الناجمة عن الازمة وتضاعيفها، فان الافعال المخالفة لضوابط وقوانين دولة الدستور (اغتيال شخصية. عسكرة نشاط سياسي، مثلا) سرعان ما تثير ردات فعل تفوق في عنفها طبيعة الحادث، لتتحول ردات الفعل هذه الى فعل بحد ذاته يؤدى الى ردة فعل من جنس اكثر بشاعة، وهكذا تتدحرج وتتصاعد الافعال وردات الافعال في تشابك يستحيل معه وضع مصدات تحول دون انزلاق المشهد في الدوامات الطائفية او المناطقية او القومية، وعلى هامش هذا التدهور تظهر للمراقب مؤشرات خطيرة لنزعة "تصفيات الحساب" في سلوك الطبقة السياسية وزعاماتها لتضيف نفسها الى مكونات ازمة البلاد الاساسية.
هنا لدينا وفرة من الامثال التي تكشف عن الكيفية التي يحصل لحادث عابر ان يصبح مدخلا الى ازمة.. ربما زيارة رئيس مجلس النواب الاخيرة الى قطر آخر تلك الاحداث التي رشحت نفسها الى ان تكون ازمة من طراز ثقيل، وكادت ان تجر المشهد السياسي الى متاهة لا احد يقدر مداها.
**********
تنشئ الدول، والكتل الاقليمية والدولية، ما يسمى بـ "ادارة الازمات" وهــي علــم مــن العلــوم الإنســانية المعاصــرة التــي تــدرس فــي المعاهــد والجامعــات فــي دول كثيرة ويؤخــذ بنتائجهــا وتوصياتها لتفادي الأزمات أو التقليل من آثارها.
اما في اللغة وقواميسها وشروحها فان مصطلح الازمة قديم ويعود الى العصر الذهبي الاغريقي إذ استخدمت في المجال الطبي للدلالة على حدوث تغيير جوهري ومفاجئ في جسم الإنسان وفي العام 1937 عرّفت دائرة معارف العلوم الإجتماعية الأزمة بأنها: حدوث خلل خطير ومفاجئ في العلاقة بين العرض والطلب في السلع والخدمات ورؤوس الأموال.
اما في اللغة قان الفعل "أزَمَ" يعني عضّ الشيء، وفي قـاموس لسـان العـرب هـي "الجـدب أو القحـط أو المجاعـة" وفي المورد هي تغير مفاجئ نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وفي علم الامراض الحديث ترد كلمة الازمة بمعنى "السخونة الحادة" أمـا الأزمـة مـن الناحيـة الاجتماعيـة فتعـرف علـى أنهـا خلـل وعـدم تـوازن فـي عناصـر النظـام الاجتمـاعي فـي ظـل حـالات مـن التـوتر والقلـق والشـعور بـالعجز لـدى الأفراد وعدم القدرة على إقامة علاقات إنسانية واجتماعيـة وظهـور قـيم ومعـايير أخلاقيـة مغايرة للوازم السلم الاهلي وثقافة التضامن.
ويذكر "قاموس وستر" ان الازمة تشير الى "وقـت عصـيب".
تعالوا نعبره.