الدكتاتوريات الأكثر سوءاً هي التي حتى وإن زيلت فإنها تظل (تتحكم) حتى بإنتاج طبيعة النظام الذي يعقبها. تلك هي الدكتاتوريات التي تحيا على شراهتها فتديم حضورها الشرير حتى مع زوالها
وغيابها. الدكتاتورية نمط ثقافي وسلوكي وليس مجرد وجود فيزيقي. يختفي الدكتاتور لكن أشباحه تظلّ تعاود الظهور.
أشباح الدكتاتورية أشد خطراً في أحيان كثيرة من الدكتاتورية نفسها. تعبث الأشباح وتحطّم وتدمِّر من حيث (لا تُرى) ومن حيث تتوارى خلف حجب كثيرة، ومن بين حجبها الوجوه الملمعة لحكام جدد يأتون في أعقاب زوال الدكتاتورية ويقدمون أنفسهم على أنهم آباء للحرية. ليس بالضرورة أن تكون بقايا الدكتاتورية هي الأوفى لها.
فشل السلطة الصاعدة بعد زوال الدكتاتورية في اقناع الناس بجدوى النظام الجديد هو العطر الذي تضمخ به هذه السلطة نتانة جثة متفسخة.
قد تفشل بقايا الدكتاتورية، ويجب أن تفشل، في إعادة الاعتبار للماضي، لكن من الممكن أن يتكفل دفانو الدكتاتورية أنفسهم بإعادة نبش القبر والتماس شيء من الحياة في جسد الميت. يحصل هذا حين يتشارك الجدد مع القدامى في الروح.
روح السلطة تغري وتفتن كثيراً من
معارضيها. بعض المعارضات لا مثال لها، في أثناء عملها المعارض، سوى خصمها، سوى الدكتاتور الذي تعارضه. صورة السلطة تختصر بالدكتاتور لمثل هذه المعارضة.
شيء من السلوك الطفولي الذي يقوم على التقليد؛ المعارض يقلد طاغيته، يتلبس دوره.
تتشارك الروحان معا، روح المعارض والدكتاتور، حتى إذا اختفى الدكتاتور وجرى الاستيلاء على السلطة فإن روح الدكتاتور تظل تشارك روحَ المعارض جسدَ السلطة. من الصحيح أننا في منطقة لا تقوم ثقافتها على مبدأ تناسخ الأرواح وحلولها، لكنها منطقة تحفظ في ثقافتها هامشا ليس ضيِّقاً لمبادئ أخرى تتلبّس فيها روحٌ ما روحاً أخرى وتشاركها الحياة في جسد واحد. روح الدكتاتور تشارك روحَ معارضٍ سابقٍ جسدَ السلطة. هكذا هو جسد سلطات العرب ما بعد الدكتاتوريات، جسد تتنازعه روحان؛ روح معارضة آفلة وجنبها روح سلطة دكتاتورية غاربة لكنها تتشبث بالحياة.
المنطقة العربية، وربيعها الزائف، هي المثال الأشد وضوحاً عن مدى قدرة طغاتها الراحلين على بسط نفوذ سوئهم على الحياة السياسية التي تقوم على أنقاض الدكتاتوريات بعد زوالها.
قلت إن الدكتاتوريات الأكثر سوءاً هي التي (تتحكم) بإنتاج نوعية النظام الذي يعقبها لكن الصحيح أيضا هو أن أسوأ أنماط أنظمة الحكم ما بعد الدكتاتورية هي هذه التي تسمح للدكتاتورية المنهارة بأن تشكلها كما تشاء.
لا أحد يقدر على تنظيف ماضٍ وسخ وقد طُويَ، إنما هناك مَن له القابلية على أن يكون أشد نتانةً من أي ماضٍ وسخ.
تشابهُ سلطاتٍ جديدة مع سلفِها القديم بالنتانة يعني في ما يعنيه تصالحهما واصطفافهما معاً بمواجهة الخصم الدائم: إرادة الحرية.