تُوفيت قبل خمسة أيام مديرة مدرسة في قطاع 33 بمدينة الصدر (الثورة)، فكان موتها أكبر من حدثٍ في هذا القطاع من المدينة التي لم يكن الموت يوماً بالغريب عليها.
ساجدة محمود هي مديرة مدرسة عسقلان منذ ما يقرب من الأربعين عاماً.
لا بيت في القطاع ليس فيه أطفال هم تلاميذها وأبناء لتلاميذ سابقين لها.
ساجدة محمود من ديالى، وكانت من سكنة حي البنوك وهو من أفضل أحياء رصافة بغداد. لم يرهقها الطريق يوماً من بيتها إلى المدرسة، وكان يتطلب أكثر من سيارة حتى تصل إلى عملها، لم يغرها الرفاه وتقدم الحياة الاجتماعية في الحي الذي تقيم فيه مقابل الفقر وسوء الخدمات في الحي الذي تعمل فيه. لقد أحبت الناس في قطاع 33 وأحبوها ومعهم أحبت عملها ومدرستها التي بدأت مهنتها بها حتى ماتت، لم تفكر يوماً بمغادرتها إلى مدرسة أقرب إلى سكناها ولم يكن هذا بالمتعذر عليها.
اخلاصها لعملها حفّزه التواصل الدراسة؛ فمع اقترابها من الخمسين حصلت على الماجستير في التاريخ ثم واصلت فحصلت على الدكتوراه.
لم تغرها الشهادة وامتيازاتها فقد آثرت البقاء حيث هي بين الناس الذين أحبتهم وأحبوها وفي مدرستها التي جمعت على مدار عمرها معلمات مسيحيات وصابئيات وكرديات وسنيات وشيعيات وكانت بينهن، كما أذكر، سيدة من الديانة اليهودية.
خلال الأعوام الأربعين كانت بيوت القطاع مفتوحة لساجدة محمود، وكان بيت والدي هو الأقرب لها.. كل أولادي وبناتي وأولاد وبنات أخوتي مروا بها، وكان لعمق علاقة الاحترام والتقدير التي حظيت بها من قبل والدي ووالدتي قد جعلت من ساجدة تدخل البيت كأي واحدة من بنات الحاج.
في ذروة سنوات العنف الطائفي كان الكل قلقين، وكان داعي قلقهم هو من احتمال أن تقلق ست ساجدة لداعٍ مذهبي فتفكر بالانتقال من المدرسة ومن المدينة.
لم تنتقل، ولم تشتكِ يوماً من خشية أو تحسّب؛ (كلهم أولادي.. لماذا الخوف؟
المدرسة بيتي والناس أهلي) كانت تقول، وكان هذا مما يزيد محبة الناس لها.
زادت على هذا فقررت الانتقال نهائياً من حي البنوك والاقامة قريبة من مدرستها وناسها.
توفرت على مشتمل يكفيها في بيت لشقيقتي قريب من بيت والدي وأشقائي فكانت فرداً من عائلة كبيرة.
حين فاجأها الموت قبل خمسة أيام كان معها في المستشفى كثير من عائلتنا، وابن أخ وأخت لها وآخرون من عائلتها جاؤوا قبل وفاتها بساعات من ديالى ومن أحياء أخرى ببغداد.
شيّعها أبناء القطاع، وطافوا بها في فناء مدرستها قبل أن ينقَل جثمانها إلى مقبرة عائلتها في شهربان، فيما أقام زملاؤها وزميلاتها مجلسَ عزاء لها في مضيف الوالد قريباً من المدرسة ومن البيوت التي كانت كلها لسنوات بيتاً لها، يرحمها الله.