تحدث إليّ متأثراً ومتألماً وهو يشير إلى ما لاحظه من مفارقة في مطار بغداد حين شاهد ثلاثة من كبار مثقفي البلد يقفون في طابور بانتظار إجراءات التفتيش التي تتطلب حتى خلع الأحذية والأحزمة وفركشة محتويات الحقائب، فيما كان يمرّ قريباً من هؤلاء المثقفين شابٌّ ثلاثيني (قال إنه من حملة الدرجات الخاصة التحاصصية) معززاً مكرماً ومعفواً من جميع اجراءات التفتيش.
استفسرت من محدثي عما تعرض هو أو لم يتعرض له من اجراءات أمن المطار، فأكد أنه مر بالإجراءات جميعها، ثم علّق بقوله: أنا أتقبل كل هذه الإجراءات لكن أن يتعرض لها رموز من مثقفي البلد فهذا ما لا استسيغه ولا أقبله.
ما الذي يمكن الرد به على مواطن مثل محدثي الذي ينظر بعين إكبار وتقدير لمثقفي بلده، وهو ما لا تفكر به الإجراءات والتعليمات الرسمية؟
سيكون صحيحاً، من وجهة نظري، أن يخضع الجميع للإجراءات والتفتيشات نفسها ما دام ظرف البلد يتطلب ذلك؛ ويتساوى بهذا المثقف الكبير من أي مواطن آخر.
هذا شأن لا يثلم شيئاً من القيمة الاعتبارية للمثقف، بل بالعكس فهو يقدم مثالاً رفيعاً باحترام القوانين والتعليمات تحرج حتماً أي مواطن آخر يتبرم من مثل تلك التقييدات التي يفرضها ظرف طارئ. لكن أن تعفو دوائر الدولة المسؤولة ناساً من تعليمات مفروضة على عامة الشعب، ويجري تبرير وتسويغ هذا الإعفاء بالقيمة الرمزية لمن تراهم الدوائر كباراً بالوظيفة والمناصب وبالوجاهات الحزبية فيما يجري إهمال كبار مثقفي البلد من هذه الاستثناءات فتلك مشكلة أخلاقية كبيرة.
ومثقفو البلد ورموزه هم ليسوا الكتّاب والصحفيين والأدباء والفنانين حصراً؛ إنهم هؤلاء فعلا ولكن معهم كبار قضاة البلد وكبار أطبائه ومحاميه وأساتذة جامعاته وعلمائه.. ولعل القائمة تطول.
واقعاً أستغرب أن يسمح شاب بمنصب خاص أن يمضي رافعاً رأسه مقدّراً ومعززاً ولا يبالي حين يرى إلى جواره وقريباً منه أستاذه في الجامعة أو أديباً وصحفياً يقرأ له (إن كان يقرأ) أو طبيباً كبيراً يقف في طابور التفتيش.
إنه التمييز!.
والتمييز يجري على أساس بطاقة هوية خاصة تمنحها وزارة النقل والمواصلات، ويعفى حاملها من كل هذه الإجراءات، وهذه الهويات لا تمنح إلا عن طريق دوائر الدولة لـ (كبار) موظفيها.
سيكون الأمر أخف وطأة لو جرى تخصيص مطار خاص لهؤلاء (الكبار) وعزلهم عن بقية الشعب. وحينها سيختار حتماً كبار مثقفي البلد أن يكونوا مع عوام شعبهم. لن يقبلوا بامتياز يميّز الناس، ويميّز الثقة بهم على أساس المركز الوظيفي والوجاهة الحزبية.
وحين يجري تخصيص مثل هذا المطار فستجري مطالبة بتخصيص شوارع ايضا لمرور مواكب (الكبار) التي يجب أن لا تزاحمها في السير سيارات العوام و(صغار) الشعب.
وما أكثر الحواجز التي يجب أن تقام بين (الكبار) و(الصغار)!